شبّان وفتيات مستقلّون ومعاندون يرفعون تحدّي التحديث
والابتكار... أفلام تحريك تروي لنا القهر واللجوء والشعر والأمل
02-03-2021 | 00:00 المصدر: النهار
جورج
خوري (جـــاد)
على رغم أنه لا يمكن
الحديث فعلاً عن وجود "صناعة" في مجال الرسوم المتحرّكة في العالم العربي كما هي الحال
في مجالات السينما والمسرح والموسيقى من ناحية عدد المحترفين (كتاب سيناريو،
رسّامين، محرّكين، تقنيين، إلخ...) وجمهور متابع وأمكنة عرض وأستوديوهات وبنى
تحتيّة تقنيّة وما شابه لدعم إنتاج ثابت تراكمي كمّي ونوعي، فإن بعض المساهمات
الفرديّة التي تطلّ علينا بين الحين والآخر من خلال المهرجانات عندنا (على ندرتها)
أو في الخارج، أو في وسائط الاتصال الرقميّة، تتيح لنا استكشاف إمكانات ومسارات
واعدة خصوصاً في أوساط الشباب بعدما أصبح في إمكان فريق صغير انتاج فيلم قصير من
دون الحاجة الى الاستعانة بأستوديوهات وإمكانات ضخمة.
واللافت من خلال متابعة حديثة (وغير شموليّة في
التأكيد) لهذا الإنتاج(1) أنه يعود في قسم كبير منه إلى مشاريع تخرّج من الجامعات
والمعاهد(2) ما يسمح لطلابها حريّة واسعة في التعبير سواء في اختيار المواضيع أو
التقنيات وتجريبها من دون عوائق الشروط التجارية للسوق وأماكن العرض، أو العقبات
الرقابية للدول الخاضعة في معظمها لأنظمة أحاديّة غير ديموقراطيّة، بعد فسحة من
الحريّة أتاحها "الربيع العربي" الذي تحوّل خريفاً قمعيّاً. بعض آخر وجد
طريقه الى الوجود من خلال برامج بعض المؤسسات والمنظمات المحليّة والدوليّة(3)
التي ترى في الرسوم المتحركة وسيلة فعّالة وواسعة الانتشار في مجالات التوعية
المجتمعيّة والحقوقية. ولا تخفي بعض المنظمات أو الهيئات السياسية استعانتها بهذا
الفن لدعم قضاياها وبرامجها السياسيّة.
تبقى القلّة وهي الأهمّ وأكثرها وعداً من فنّانين
وفنّانات مستقلّين من خارج الدوائر الآنفة الذكر، يدفعهم عشقهم لهذا الفن، وحاجتهم
إلى التعبير الذي غالباً ما يقع في خانة الشخصي والذاتي سواء في المضمون أو في
أساليب الرسم والتحريك التي تحاكي التجريب والاختبار، وهي الفئة التي تعكس أكثر من
غيرها واقع الحال العربي، وبينها من هم الأكثر جرأة في تناول موضوعات تعتبر من
المحرّمات سواء في السياسة أو المجتمع ما يعطي هذا الفن مشروعيّته كوسيلة تعبير لا
تقتصر على الترفيه أو التوجيه التربوي للأطفال(4). ما يفسّر أيضاً أن الإنتاج في
أكثره يقوم على الجهد الفردي سواء كان مستقلاًّ أو من خلال مشاريع التخرّج في
الجامعات التي تعتبر الرافعة الأساسيّة لاستمرار الحضور الشاب واندفاعه في سوق عمل
ما تزال بدائيّة، يرافق ذلك استمرار الحضور الخجول للإنتاج المدعوم من قبل
المؤسسات الرسميّة أو المنظمات غير الحكوميّة، ما يجعل العاملين في هذا المجال
"فدائيّون" يعاندون الظروف الماديّة الصعبة وغياب التواصل مع جمهور عريض
خارج أطر المهرجانات واللقاءات الثقافيّة الخاصّة والحلقات الضيّقة التي لا تؤمّن
شروط الاستمرار(5).
حضور خاص للفنانات يميّزهن بالمقارنة مع سائر
الفنون البصريّة الأخرى (إذا استثنينا الشريط المصوّر). الفنانات الشابات متساويات
تقريباً في الكمّ والنوع مع الفنانين الشباب وإن كانت اهتماماتهن مختلفة. فالتركيز
هنا على المواضيع الاجتماعيّة التي تعنى بوضع المرأة وما تعانيه في مجتمعاتنا
الذكوريّة، أو على الخاص الحميمي الذي ما زال الرجل يهاب التطرٌق اليه ويغيب عنه
ليبقى شأناً عاماً وغير خاص باستثناء مشاركة واحدة عن المثليّة الجنسيّة. ولم يعد
غريباً أن تكون المرأة منذ انطلاق الثورات العربيّة قبل عقد تقريباً في خطوط
الدفاع الأولى عن حقوقها المدنيّة والاجتماعيّة، متمسّكة بإرادة لا تعرف
التراجع(6). في المقابل يبدو أن الفنانين الشباب تستهويهم أكثر مواضيع السياسة،
وهم مأخوذون أكثر بالتجريب والاختبار سواء على مستوى السرد أو التقنية.
من هذا المنطلق كان "بائع البطاطا
المجهول" لرشدي أحمد(7) (مصر) الأكثر وضوحاً في تناوله الموضوع السياسي من
خلال رواية تستند إلى واقعة قتل عمر البائع-الطفل في ساحة التحرير أبان الثورة
باطلاق نار وصفته السلطات بأنه نتيجة "خطأ تقني". عمر الذي يحلم بدخول
المدرسة يؤرق حياة الفنان خالد الذي تراوده كوابيس خفافيش الليل التي تهاجم
المدينة لأخضاعها. نصّ سردي متمكّن يرافق رسوم واقعية ومؤثرات بصريّة تنقذ العمل
من أن يكون مجرّد Animatic لفيلم قيد
الإنتاج. إلى الاحتراف في الرسم يتقن رشدي تماماً التقنيات السينمائية من كادرات
وحركة كاميرا ومونتاج، أضف إليها المؤثرات الصوتيّة المناسبة.
"قصة فلسطينيّة" سلسلة من ثلاث قصص عن المعتقلين الفلسطينيين في السجون الاسرائيليّة يقدّمها "ستوديو سمكة"(8) (مصر) لحساب اللجنة الدوليّة للصليب الأحمر. قصّة أب، وأخرى لأم والثالثة لزوجة من بين آلاف القصص التي تروي تفاصيل مشقّة الزيارات وصعوبة اللقاءات التي لا تدوم سوى لدقائق. قصص انسانيّة صغيرة تعيد تذكيرنا بالمآسي الكبيرة المنسيّة في عالم اليوم. جميلون هم الفلسطينيون رغم الظلم، صابرون، لا يفارقهم الشوق للأحبّة ولا الأمل. لحظات انسانيّة بعيدة عن الخطاب الأيديولوجي المكرّر. مزيج من البسمة والحزن نجح "ستوديو سمكة" في نقلها من خلال سيناريو بسيط وذكي، ورسوم جميلة وألوان زاهية ترابيّة وغير سوداويّة، وتذكير بأن هناك "مئة ألف معتقل = مئة ألف قصّة".
أكثر شاعريّة وغرافيكيّة "رسالة لاجئ-آسف
لأني غرقت" من "ستوديو كواكب"(10) وتحريك ديفيد حبشي، حسين نخال
وكريستينا سكاف (لبنان) عن اللاجئين السوريين الهاربين من أكبر مأساة إنسانية
معاصرة ليلقوا مصير الغرق في المتوسط. عمل تجريبي بامتياز بالأبيض والأسود يأخذنا
إلى غير المألوف في مقاربة موضوع أُنهِكَ من كثرة تناوله. أسلوب رسم إيحائي بعيد
عن الواقعية يعتمد أساساً على تقنيات الغرافيك و"الصورة-الكولاج" في
محاولة -مقصودة ربّما- لخلق أجواء تعبيريّة أكثر منها سرداً روائيّاً. كأن
الفنانين أرادوا إبلاغ الرسالة بعيداً عن الاستهلاك البصري الإعلامي الذي رافق
الثورة السوريّة وأفقدها تأثيرها الوجداني، فإذا بـ "رسالة لاجئ" تصيبنا
عبر إيحاءاتها في صميم وجعنا الذي يستيقظ فجأة فينا. أجواء بصريّة قريبة استخدمها
الفنانون في "رسائل من نساء صغيرات" عن شهادات حقيقيّة لفتيات يتحدّثن
عن تجاربهن من زواج القاصرات. مواضيع منتقاة بعناية وأسلوب بات يحمل بصمتهم
وهويّتهم الخاصة بعيداً عن المألوف.
شاعريّة بامتياز هي أيضاً منال الأطروش(10) في "فتات"(11) (مصر)، الشريط القصير الذي يستحق عن جدارة تسمية الشعر المتحرّك، عن يوم في حياة رجل عجوز يغرق في كرسيه في دار لرعاية المسنين وهو يغوص في رحلة مؤلمة في ذاكرته محاولا اكتشاف ما وراء الصور غير المكتملة التي يراها. منذ الثانية الأولى تأخذنا الفنانة في رحلة فنّية بصرية لا معالم واضحة لوجوهها، فنغرق معها في ألوانها الحميميّة وأشكالها الدائمة التحوّل في لعبة معقّدة من الانتقال من حال إلى أخرى ومن مشهد إلى أخر من دون أي مونتاج أو تأثير بصري مضاف أو مفتعل. تقنيّة عالية واحتراف في مواكبة نص الراوي والسرد البصري. منال الأطروش بإحساسها المرهف فتحت أمامنا متنفّساً نحن بحاجة له وسط التراجع والانسداد المخيف الذي نحن فيه.
"إسمي" لناتالي هنداوي يعيدنا إلى خصوصيّة المرأة وعلاقتها بهويّتها وجسدها. مونولوج بسيط للحظات ومشاهد بسيطة، ورسم بسيط غاية في التعبير بات يطبع الأساليب المعاصرة للفنانين الشباب في الرسوم التعبيرية والشرائط المصوّرة خصوصاً. امرأة تستيقظ عارية وتسير عارية في ليل شوارع بيروت تستملكها وتتماهى معها كأنه فضاءها الداخلي الخاص. لا يهمّها انقطاع كهرباء وكأنها اعتادت عليه، أو النتوءات في الأبنية وكأنها جزء من هندستها، مثلما اختصرت السؤال عن الهويّة بأن "ليس من أحد غريب في هذه الدنيا". ناتالي هنداوي قرّرت الابتعاد عن الثرثرة في الحديث عن ذاتها وعن مكانها فاختصرت بتجربتها القصيرة جداً تعقيدات الرسم بخطوط قليلة واضحة، وتدّرجات الألوان بألوان مسطّحة، والسرد الملحمي ببيت شعر واحد. هي هنا لتقول أنها موجودة كامرأة.
من خارج المألوف البصري والسياق السردي يفاجئنا بهيج جارودي المحترف في "روايات حسّاسة" و"الفتاة ذات الرداء الأحمر الصغيرة جداً" (لبنان)(12). عبثيّ إلى أقصى الحدود في السرد الذي لا يخضع لمنطق أو لبنيان. في رواياته الأربعة التي لا رابط بينها، مشاهد ووقفات وعلاقات لا يجمع بينها سوى الشخصيات وحركاتها في زمانها ومكانها، وفي بعض الأحيان الرمز اللّوني المرافق لها. غياب المألوف ربما هو الرابط الوحيد الجامع بين أسلوب الرسم وطريقة السرد وخواتيمها. هو أكثر الفنّانين براعة في التحريك، وأكثرهم غرابة في ابتكار الشخصيّات، والأكثر جمالية في بناء المشاهد، والأكثر اقتصاداً في الخطوط والألوان والخلفيّات. ما يمكن أن يجعل هذه العبثيّة مدرسة في التحريك عندنا هو إتقانه للحركة وتوقيتها (أصعب ما يواجه المحرّك)، ومتابعته لأدق التفاصيل حيث لا مجال للصدفة، فكل شيء مدروس ومفكّر فيه من النقطة الحمراء (بطلة الرداء الأحمر) إلى العناصر الفوتوغرافيّة التي يمكن أن يستعين بتفصيل منها في فضاءاته التي تنمّ عن ثقافة فنيّة شاملة. وهنا يجدر التنويه أنه يعزف موسيقى أفلامه (في الغالب على آلة الغيتار الذي يحترفه) ويبتكر المؤثّرات الصوتيّة بنفسه، وهي تتبع في معظمها "منطق" أعماله.
لهم ألف تحيّة.
__________________________________________________________
1 - تعتمد هذه القراءة في شكل أساسي على المساهمات
في مهرجان "بيروت متحرّكة" لدورة سنة 2019-2020 إضافة إلى عدد من
الأفلام المشاركة في مهرجانات أخرى.
2 - خصوصاً في لبنان، مصر، تونس، والمغرب.
3 - بعض الوزارات المحليّة أو هيئات من المجتمع
المدني وبرامج دعم تابعة للأمم المتحدة أو الإتحاد الأوروبي أو بعض المنظمات
الدوليّة والعربيّة المستقلّة.
4 - في تعداد سريع لنسب المواضيع، تحتل المسألة
الاجتماعية الصدارة في اهتمامات الفنانين والفنانات (44%)، يليها بالتساوي الأفلام
التجريبيّة (16%) والأخرى التي تتناول الموضوع السياسي (16%) أو المواضيع
المتفرّقة (16%). أما المواضيع الترفيهيّة والفكاهيّة فهي الأقل حضوراً (8%).
5 - الإنتاج الفردي (28%) ومشاريع التخرّج من
الجامعات (26%) تحتل صدارة الإنتاج يليها من بعيد الأستوديوهات المستقلّة (10%)
والهيئات الرسميّة (6%) والمنظمات غير الحكوميّة أو المراكز والمبادرات الثقافيّة
(4%).
6 - المشاركة النسائية (41%) من مجموع الأفلام. في
المواضيع الاجتماعيّة الخاصة بالمرأة (86%)، مواضيع شخصيّة (70%)، فيما يقلّ
الاهتمام بالهمّ السياسي المباشر (17%).
7 - فنان محترف سبق له الاشتراك في مهرجانات محلية
ودولية وحاز على جوائز عدّة,
8 - استوديو مصري للرسوم المتحركة بدأ الانتاج في
عام 2018.
9 - من مدرسة إميل كول الفرنسيّة 2018.
10 - ماجستير في الرسوم المتحركة من جامعة الفنون
بلندن (University of the Arts
London).
11 - ضمن فعاليّات “Lab-Op3/poetry in motion” الألماني تحت عنوان "الهويّة" 2019.
12 - ماجستير في فنون التحريك من جامعة كينغستون
في بريطانيا، عازف غيتار محترف. ساهم في قسم التحريك في تلفزيون المستقبل واستاذ
فنون التحريك في الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت.