حين تتحوّل الأكاديميا رافعة لفنون الهامش "المشاغبة" (2)
"جماعة ألبا" حرفيّون يقتحمون، يستفزّون، ويفرضون الإيقاع
المغامرة انطلقت مع حلم فتاة بعد انتهاء الحرب الأهليّة عندنا (1992)، تلقّفتها "ألبا" المعروفة بريادتها الفنون الطليعيّة منذ بدايات القرن الماضي (تأسست في 1937) لتبني على مرّ السنين منهاجاً أكاديميّاً كان ولا يزال فريداً في منطقتنا يمنح شهادة ماجستير في الشريط المصوّر. ميشيل ستاندجوفسكي، وهي أيضاً من أوائل الفنّانين الذين أطلقوا في بداية الثمانينات الحركة الحديثة للشريط المصوّر فنّاً مستقلّاً يحاكي الفنون البصريّة الأخرى، كاسرين عُرف أنه للأطفال والناشئة، بدأت في صفحات جريدة الــ"أوريان-لوجور" كتابة مقال أسبوعيّ (1979-1989) للتعريف بآخر الإصدارات الفرنسية التي كانت تشهد ثورة على الإرث التقليدي، فكانت نافذتنا الأوروبية أيام الحرب للتواصل مع الجديد المختلف من مواضيع وفنّانين، إلى جانب نشرها شريطاً اسبوعيّاً ساخراً (1978) استمرّ عقداً (Beyrouth-Déroute). وضعت دراسة أولى عن "الشريط المصوّر اللبناني الحديث" وهو عنوان المعرض الذي أقيم في 1985 في معهد غوته الألماني في بيروت الحرب وشاركت فيه بأعمالها للمرّة الأولى قبل أن تأخذها مغامرتها لاحقاً إلى عواصم عالميّة عرضاً ونشراً، كان آخرها الرواية المصوّرة للسيرة الذاتيّة لعائلتها "كل البحار" (Toutes les Mers).
لم تكتف ميشيل ستاندجوفسكي بنقل
خبرتها التقنيّة ومعرفتها إلى طلابها، وإنما كانت دائماً تبحث عن تطوير أفقهم
بالتواصل المباشر مع فنانين بارزين شكّلوا علامة فارقة في تاريخ المهنة، فكانت
تدعوهم لإقامة محاضرات عن فنّهم أو ورش عمل للتعرّف إلى الإختبار الذي لا يزال
يزخر به الشريط المصوّر. كأن التواصل الشخصي لا يروي عطش الطلاب، لذا نظّمت ولا
تزال رحلات سنويّة إلى المركز العالمي الرئيسي لهذا الفن في مدينة أنغولام
الفرنسيّة التي تتحوّل مطلع كل سنة إلى محجّة للمحترفين من الفنانين والكتّاب
والهواة ودور النشر من كل صوب وكل راغب في الترحال في المحيط اللامتناهي
لإنتاجاته. هندست منهاجها الذي يمتد خمس سنوات للتركيز على الإختصاص. وإذا كان
معروفًا عنها صرامتها في التأسيس فهي تركت لا بل شجّعت طلاّبها على الإبتكار
والإختبار سواء في المواضيع أو بناء النصوص والأهم في أساليب الرسم والسرد البصري
الذي تميّزوا به وحملوه علامة فارقة في ما بات يعرف بـ"#جماعة ألبا":
محترفون بعيدون عن الهواية، مغامرون يكسرون التابوهات، متعدّدو المواهب واللغات
يمتلكون أدوات صناعتهم ويبتكرون الحلول البصريّة والإنتاجيّة التي غالباّ ما تصبح
تقليداً تتناوله جماعات الشريط المصوّر على مساحة العالم العربي (وإن كان الكثير
من انتاجهم غير ناطق بلغته).
لاكتمال دائرة التخصّص يطلب في سنة
الماجستير الأخيرة وضع كتاب يجري تقييمه على أساس كل مراحل الإنتاج المختلفة من
بداية الفكرة إلى الطبع النهائي، والشريط المصوّر هو في الأساس مادّة تواصل مطبوعة
تأخذ "ألبا" على عاتقها المساهمة في نشره وتوزيعه، وهي أصبحت إلى
رسالتها التعليميّة أكبر دور النشر المتخصّصة.

ترايسي شهوان، في الصفوف الأماميّة الاحتجاجيّة. رافاييل معكرون، نقاوة خطّ وألوان "الأرضيّون"
لا يعود غريباً إذاً أن نرى
"جماعة ألبا" يتحوّلون إلى القوّة الدافعة لحركة الشريط المصوّر الحديث
عندنا، هم الجيل الثالث اليوم الذي تقوم عليه "السمندل" مساهمة (جميعاً)
أو تحريراً للأعداد التي باتت سنويّة (جوزيف قاعي، رفاييل معكرون، ترايسي شهوان)،
وهنّ أساس جماعة "زيز"، المولود الحديث للشريط المصوّر الإختباري (كارين
كيروز، كارلا حبيب، نور حيفاوي، ترايسي شهوان) ونشرتها "الجريمة" التي
لم توقفها الإضطرابات وظروف النشر الصعبة وربّما الملاحقات، فانتقلت إلى الفضاء
الإفتراضي مع عددها الأخير. منهم المعلّقون والنقّاد إلى جانب انتاجهم الفني (رالف
ضومط) أو من الأساتذة الذين يساهمون و"معلّمتهم" في استمرار الرسالة
(غدي غصن، رالف ضومط). نراهم شابات وشباباً في الصفوف الأولى لكل حركة احتجاجيّة وبرزوا
منذ انطلاق ثورة 17 تشرين يطبعون على قمصاننا الرسوم التحريضيّة ويغطّون جدراننا
بالشعارات وبخطوطهم التي أصبحت جزءا من فن التصميم الذي ابتدعوه ورفاقهم من
الجامعات الأخرى. كسروا التابوهات والمحرّمات وأعادوا إلى الشريط المصوّر طابعه
الرومنطيقي والشعبي "المشاغب" دون ابتذال بعدما جنح في بعض تجاربه ليكون
فن نخبة أسوةً بالفنون البصريّة الأخرى. جماعة أفرادها مبادرون أينما حلّوا لا
ينتظرون الطلب ليبدعوا كما أصبحت العادة عندنا. شباب وشابات طلب منهم أن يكونوا
محترفين على مقاعد الدراسة، فاندفعوا بروح شابة طموحة في عالم الاحتراف ونجحوا
أينما حلّوا سواء بقوا عندنا (غالبهم)، أو غادروا (مازن كرباج
الرحّالة الدائم، زينة أبي راشد أيقونة الشريط المصوّر اللبناني في الخارج، إيلي
داغر الحائز جائزة مهرجان كانّ بعد انتقاله من الشريط المصوّر إلى فنّ التحريك،
رفاييل معكرون التي تنشر المجلات والصحف العالميّة رسومها وكتابها الباريسي الأخير
"الأرضيّون" (Les
Terrestres)، محمد قريطم
وشغفه الدانماركي أو ترايسي شهوان في مغامرتها الأميركيّة الأخيرة).
التفافهم
حول "روح الألبا" كما يردّدون، لم يمنع التمايز والإختلاف الذي نشأوا
عليه في قاعات أكاديميّتهم أسلوباً في الرسم أو في خياراتهم السرديّة. فلا أحد
يشبه الآخر وإن كان الجميع يتعاون ويتساعد، وهنا قوّتهم "جماعة": جوزيف
قاعي مرهف الخط وعميق الإحساس يتجرّأ بجماله وأثيريّة ريشته في عالم الجندرة، رالف
ضومط يعيدنا إلى الأصول السرديّة والخط الواضح لمدرسة بروكسيل، رفاييل معكرون
وأسلوبها الواقعي وريشتها النقيّة وألوانها الباهرة، كارين كيروز تتجاوز المألوف
البصري وترحل بعيداً في الاختبار، غدي غصن يستفزنا بخطوطه التعبيريّة الواثقة
وبسرده القوي، كارلا حبيب تقترب من تجارب الفن التشكيلي المعاصر، نور حيفاوي
تستدرجنا بخطوطها الشفافة إلى عالم يفاجئنا بعنفه، ترايسي شهوان تطيح بريشتها
العنيفة كلّ محرّم و"تغتصب" استقرارنا النفسي والبصري، محمّد قريطم
بسيولته البصريّة وريشته الذكيّة التي لا تحتاج إلى نصّ لتروي، إيفان دبس الآتي من
عالم الخيال العلمي ويذكّرنا بكبار المحترفين العالميين اتقاناً للرسم والسرد
البصري، نعومي حنين ورهافة رسمها وغنى ألوانها وسخريتها السوداء في مواجهة مرض
السرطان الذي تجاوزته، واللائحة تطول. هذا إذا استثنينا الأيقونات من مثل مازن
كرباج وزينة أبي راشد اللذين شقّا طريق الممكن.
. جوزيف قاعي وشفافيّة الجندرة. إيفان دبس يحاكي العالميّة
مختلفون
إلى حدود التناقض ومتّحدون إلى حدود الأخويّة هم "جماعة الألبا" ويرفضون
التوقف عن الإنتاج ولو كان على الورق الرخيص وبالأبيض والأسود، حفاظاً على استمرار
حرفة الطبع الورقي ورفضاً للتحوّل إلى خيالات افتراضية على شاشة كومبيوتر أو هاتف
ذكي. هم وهنّ، بعددهم وتجاربهم وانتشارهم في أنشطة مختلفة، أصبحوا المثال الذي
يقتدى به، وضباط الإيقاع لحركة الشريط المصوّر وتنوّعها واستمرارها عندنا. معهم
وبعدهم جاء الطبع بتقنيّة "الريزو" حين أصبح النشر مكلفاً، معهم جاءت
الملصقات الافتراضية لبضائع تحمل معنى ورسالة اجتماعيّة وسياسيّة مضمرة أو لحفلات
موسيقيّة لم تجرِ أو لأفلام لم تُعرَض أو يعيدون صياغتها لسبب هو التجريب الفنّي
والرغبة في فنون بديلة. معهم أصبح الرسم الحي المرافق لموسيقى إيقاعيّة أمام
جمهورهم تقليداً كأنه تمرين يلجأون إليه حفاظاً على ليونتهم الحرفيّة أو لتجارب
تقنيّة قبل وضعها على الورق. ألغوا المسافة الفاصلة بين ما يعيشونه ويعبّرون عنه،
وكأن الشفافيّة والصراحة مفتاح الإنتماء إلى الجماعة.
إذا كان الدور الريادي في محيط ما،
لا يقاس بالمألوف أو المتعارف عليه وإنما بما هو مختلف ومستفزّ ومدعاة للتفكير
والإبتكار وتجاوز الذات، فإن الأكاديميّة اللبنانية للفنون "ألبا"
تعطينا الرسالة الإيجابيّة بأننا لا نزال نملك مقوّمات الريادة في محيطنا برعايتها
وتطويرها وتنشيطها لفنون غير تقليديّة ومألوفة وخصوصاً الفنون التي كانت تعتبر
"هامشيّة ومشاغبة" وباتت اليوم مقياساً للتقدّم.
ميشيل ستاندجوفسكي، حلمك تحقّق
وبفضل "جماعتك" هو مستمر، فاطمئني.
جورج خوري (جــاد)