Monday, April 12, 2021

الجامعة الأميركيّة مركزاً وجائزة من "محمود كحيل"

 

حين تتحوّل الأكاديميا رافعة لفنون الهامش "المشاغبة" (1)

الجامعة الأميركيّة مركزاً وجائزة من "محمود كحيل"

 

في العرف الأكاديمي الأميركي الخاص يتقدّم متبرّعون إلى الجامعات أفراداً أو بأسماء مؤسساتهم بمنح دراسيّة أو بدعم لبرامج ومراكز أبحاث لأسباب تتعلّق بالسياسة أو تخليداً لذكراهم أو عرفاناً بما أعطته لهم هذه المؤسسات في سنوات دراستهم التي أوصلتهم إلى ما هم عليه. وغالباً ما تكون في مجالات "مرموقة" كالطب والهندسة والعلوم التطبيقيّة وأقلّ منه في مجالات ثقافيّة وفنّية، ونادراً لفنون تعتبر في العرف المؤسساتي هامشيّة أو "مشاغبة".


لينا غيبة مديرة المبادرة

الجامعة الأميركية في بيروت خرقت هذا العرف في فتحها المجال لمبادرة خاصة بالشريط المصوّر العربي، توثيقاً وبحثاً ومعارض ولقاءات أكاديميّة دوريّة تستقطب باحثين من المنطقة والعالم من المتابعين (تتحوّل إلى مركز في نهاية سنتها الخامسة) تديرها ولا تزال الفنانة والأكاديمية لينا غيبة، في رعاية رجل الأعمال اللبناني المعتز الصوّاف[1] الذي خرق بدوره التقليد وفضّل دعم "الهامش" و"المشاغب" الذي بات مؤثّراً اليوم في أوساط الشابات والشباب المطالبين بالاعتراف باختلافهم في التعبير (أسوة بغيره مثل فن الغرافيتي أو عروض فنون الشارع أو الفنون الموسيقية البصريّة وغيرها). ربّما لأنه منذ وجوده في الجامعة طالباً في الهندسة المعمارية وهو "مهووس" بهذا الفن ويمارسه كهاوٍ ولا يزال، وأسس فيها ناديًا للكاريكاتور والشريط المصوّر قبل أن تأخذه طموحاته إلى عالم الأعمال الكبرى التي نجح فيها. لكن "الفيروس" رافقه وهو الآن صاحب أكبر مجموعة لأعمال فنانين من الروّاد العرب والعالميين في الشريط المصوّر والكاريكاتور في منطقتنا وأحد أبرز الداعمين لنشاطات الشريط المصوّر العربي أينما كان في بلادنا أو الخارج، ومن أبرزها جائزة "محمود كحيل" السنوية التي ترعاها مبادرته لفنون الشريط المصوّر والكاريكاتور والرسم التمثيلي ورسوم كتب الأطفال.

 مكتبة الجامعة الأميركيّة هي الخيار الحتمي أيضاً لمن يريد الغوص في البحث في هذا المجال وفيها ثروة نادرة في أرشيفها الذي يعود إلى ما قبل صدور أول منشور للشريط المصوّر في نهايات القرن التاسع عشر مع يعقوب صنّوع المصري المشاغب وجريدته "أبو نظّارة الزرقا" المناهضة للعهد الملكي والاحتلال البريطاني آنذاك. لينا غيبة جاءت ونفضت الغبار عن هذه الثروة المضمرة (ربما لأنها فنانة من روّاد الشريط المصوّر الراشد عندنا واستاذة في هذا الاختصاص) ووضعتها أمام الباحثين الذين يتزايد اهتمامهم بمنطقتنا بعد الانتفاضات العربيّة، وأرست تقليداً يقوم على اقتناء المكتبة كل منشور أو كتاب أو مجلة تعنى بالشريط المصوّر على مساحة العالم العربي، وأطلقت ورشة نسخ رقمي لهذا الأرشيف الضخم ليكون في متناول من يريد البحث فيه من أي مكان ينوجد فيه، وأثبتت رؤيتها فعاليّة خصوصاً في زمن الكورونا حيث البقاء في المنزل والعمل منه في الوسط الأكاديمي أصبح القاعدة وليس الاستثناء. وكونها من الجيل الرقمي منذ انطلاقه خجولاً في تسعينات القرن الماضي عرفت أن المستقبل لهذه الأداة وإذا بها مستعدّة من دون عناء للتحوّل إلى التواصل الرقمي "وقت الازمة" فنقلت معها بسلاسة لجان التحكيم والندوات المتخصّصة إلى الفضاء الافتراضي. والندوات البحثيّة التي تنظمها، وإن كانت تستقطب باحثين من العالم، أرادتها مواضيع ترتبط بواقعنا الحديث سواء السياسي أو الاجتماعي أو الفردي: "السيرة الذاتيّة في الشريط المصوّر" (2015) والانتقال من المواضيع العامة والترفيهية إلى الخاص والذاتي، "الحرب والنزاع في الشريط المصور" (2017) الذي ترافق والثورات العربيّة، "الشريط المصوّر المشاكس" (2018) وموضوع الناشطين في مجالات الحريّة والعدالة وحقوق المرأة، "النزوح وطلب اللجوء في الشريط المصوّر" (2019) الذي جاء على خلفيّة المأساة السوريّة الكبرى والمآسي الأخرى المشابهة في عالمنا العربي. ونظّمت إلى جانب كل ندوة معرضاً جماعيا لفنانين عرب وأجانب عملوا ونشروا في المواضيع المختارة داعية بعضهم للحضور ليستفيد منهم طلابها ورشات عمل والجمهور الأوسع المهتمّ بهذا الفن.

 هي من الناشطات إلى جانب كونها أكاديمية، عملت مع طلابها على مشاريع جماعيّة سواء في الشريط المصوّر أو التحريك الغرافيكي، دفاعاً عن الأبنية الآيلة إلى زوال مع "Durfour mon amour" )دورفور مع حبّي)، "جدران غريبة" عن ذكريات الحرب الموشومة على جدران المدينة، و"قطار سكة الحديد" قصص ذاتيّة عن خط السكّة الحديد المتوقف عن العمل عندنا منذ عقود. ومع بداية ثورة 17 تشرين نقلت لينا غيبة صفوفها إلى "الميدان" ونتجت منها "قصص مثوّرة"، شرائط عن تجارب الطلاب الشخصيّة في الثورة وتأثيرها عليهم.

 ولأن الحركة الحديثة للشريط المصوّر قائمة على التلاقي بين المجموعات التي انتشرت في بلادنا "من المحيط إلى الخليج" وبدأت مع "السمندل" اللبنانية، وتلتها مجلات "توك توك" و"كاراج" مصر، ومخبر619 تونس، و"سكف كف" المغرب، و"حبكة" ليبيا، و"مساحة" العراق، و"فانزين" الأردن، وغيرها ممن أطلّ وتوقف عن الصدور، جمعت المبادرة قبل عامين أبرز الفاعلين من هؤلاء الفنانين في معرض رئيسي استضافه المتحف الوطني للشريط المصوّر ضمن فعاليات المهرجان الدولي لعام 2018 في مدينة أنغولام الفرنسيّة التي تعتبر أبرز المراكز العالميّة لهذا الفن، وترافق مع ندوة متخصّصة وكتاب بحثيّ تضمّن أبحاثاً ونماذج من الأعمال المعروضة للفنانين ويعتبر اليوم من أكثر المراجع شموليّة في توثيق "الشريط المصوّر العربي اليوم" وهو عنوان المعرض والكتاب، رعى افتتاحه رئيس الجامعة الأميركية في بيروت فضلو خوري إلى المعتزّ الصوّاف ولينا غيبة.

 "جائزة محمود كحيل"





  مي كريّم وقصة "ريّا وسكينة



ميجو "ملبن سادة"                                       

وإذا كان من تقليد الجامعة أن تمنح سنويّاً طلابها المتفوّقين جوائز ومنحاً دراسيّة، أرادت عن طريق مبادرتها أن تتوسّع مساهمتها إلى خارج أسوارها البيروتيّة لتشمل العالم العربي، ما يتماشى ومهمّتها التأسيسيّة منذ أكثر من قرن ونصف القرن إشاعة رسالة التنوير والتقدّم في محيطها اللبناني والعربي. وها هي تضفي المشروعيّة الثقافيّة على فن الشريط المصوّر الذي غالباً ما وصف بـ"الهامشيّة" و"المشاكسة" معترفةً بدوره الفاعل اليوم وسط الفنون التصويريّة المعاصرة متقدّما غيره في أوساط الشباب العربي. وجاءت "جائزة محمود كحيل[2]" الماليّة (تكريماً لأحد روّاد الجيل الثاني من فناني الكاريكاتور اللبنانيين) لتحفّز هؤلاء على الإنتاج ودعمهم للاستمرار وسط ظروف النشر الصعبة التي يمرّون فيها. ويتقدّم المئات منهم سنوياً ويكرّم من كان من الروّاد والداعمين له، تختار الفائزين بينهم لجنة مختلفة كل سنة مؤلفة من اختصاصيين عرب وأجانب تختارهم لينا غيبة من شبكة علاقاتها الأكاديميّة والفنّية المحلّية والعالميّة الواسعة.

تكفي مراجعة الكتاب السنوي الذي تصدره المبادرة للمرشحين والفائزين لتكوين معرفة بمآل اتجاهات التيّار الحديث للشريط المصوّر العربي شكلا ومضمونا واللاّعبين الأساسيّين فيه من فنانات (وهنّ كثر وطليعيّات) وفنانين، ومجلّات، ومجموعات، ونشاطات. وكانت المساهمات السنة رغم جائحة كورونا والحجر الصحّي الذي طاول الكوكب، سواء على صعيد الكمّية أو النوعيّة دليلا على العافية والاندفاع الذي لا يزال يمتاز به هذا الفن عندنا وفي العالم. وهو مؤشّر يدعم الإحصاءات الرسميّة لعالم النشر في فرنسا خصوصاً وأوروبا والولايات المتّحدة عموماً حيث يحتل الشريط المصوّر صدارة نسبة زيادة الاقبال عليه في أوساط الناشئة والشباب، ربّما لحاجتهم إلى الحلم والخيال داخل جدران الغرف المحجوزين فيها رغماً عنهم.

 حين يلتقي صرح أكاديمي لبناني عريق وطليعي في السعي الدائم إلى مواكبة التغيير مع إرادة رأسمال محلّي يؤمن بهذا التغيير لتقديم نموذج في التعاون المنتج والمستدام وسط ظروف كارثيّة وأبوكاليبتيّة تنتظر فيها فعاليّتنا الثقافيّة والفنيّة مبادرات ومساعدات ودعم خارجي يؤمّن استمرارها، يمكن القول إن الدور "المجنون" والمبدع والتأسيسي لهذا البلد وسط الجفاف العربي الحالي لا يزال رهاناً مشروعاً. 

 الجامعة الأميركية في بيروت، المعتزّ الصوّاف، ولينا غيبة، شكراً للنموذج.

جورج خوري (جـــاد)



[1] يدعم المعتزّ الصوّاف نشاطات وفاعليات عدة في لبنان والعالم العربي منذ عقود، وينشر لبعض الفنانين الناشئين قصصهم المصوّرة القصيرة لكن تبقى مساهمته الأهمّ في المبادرة التي يرعاها.

[2] الفائزون بجوائز السنة هم: ميجو (مصر) عن فئة الشريط المصوّر، مي كريّم (مصر) الرواية التصويريّة، ميشال جبّارين (فلسطين) الرسوم التصويريّة والتعبيريّة، ديالا برصلي (سوريا) رسوم كتب الأطفال، موفق قات (سوريا) الكاريكاتور السياسي. أما الجوائز الفخريّة للسنة فكانت لبرنامج الماجستير في الرسم التصويري والشرائط المصوّرة في الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون "ألبا" عن فئة "راعي الشرائط المصوّرة"، فيما منحت جائزة "إنجازات العمر" لفنان الكاريكاتور المخضرم المغربي إبراهيم لمهادي.