Saturday, February 3, 1996

The Shock of Technology النخبة الثقافيّة وصدمة التكنولوجيا


النخبة الثقافيّة وصدمة التكنولوجيا
إلى نزيه خاطر
                                              ١
في لحظة ما، في حياة شخص ما، يقف دون أن يدري لماذا ويحاول التطلّع إلى الوراء ربّما في عمليّة مراجعة لما أنجز أو أخفق، أو ربّما لارتباط المسألة بمرحلة عمريّة ما، أو بسبب الوصول إلى منعطف جديد في الحياة على المستوى الشخصي والمهنيلا أدري السبب، ولست من النوع الذي يطرح مثل هذه الأسئلة الميتافيزيقيّة المهم أنني تطلّعتُ إلى الوراء من الدائرة  المعلوماتية التي أنا فيها اليوم وهي بعيدة عما بدأتُ فيه  تطلّعتُ إلى الوراء لأجد نفسي في حال انفصام تام، أتابعُ مسار شخص آخر، هو أنا و “لاأنا”في آن ربّما لأن “جـــاد” هو اسم استعرته، أو لأن ما أنا عليه اليوم يختلفُ عمّا سبق”جــــاد” شخصيّة وهميّة، في شريط مصوّر وهميّ وفي واقع وهميّ الحرب لأعيشه اليوم حربه انتهت وشريطه المصوّر انتهى، وهو أنا؟ انتهى ليبدأ “أنا” الحقيقة الناتجة أيضاً عن وهم وعن خيال الواقع الوهمي "Virtual Reality"كلمة سحريّة، تقارب حال الإيحاء والإيحاء نوع آخر من الوهم
في تلك اللحظة المعلّقة في الزمن الوهمي، أدركتُ أو “هو” أدرك أن السعي الدائم الذى دأب “جـــــاد” على السير فيه في شريطه المصوّر القائم على الإيحاء بالحركة، والإيحاء بالزمن والإيحاء بالصوت، ليس سوى عمليّة خلق أوهام لدى قارىء الشريط المصوّر بأن ما يراه يتحرّك وهو جماد وينطُق وهو كتابة ومُفعمٌ بالحياة وهو رسم على ورقة بيضاء لا حياة فيها واقع وهمي بمادة حقيقيّة انتقلت وتطوّرت ودُفعت إلى نهايات قُدِّرَ لها التوقف في مرحلة انطلاقها والمُلفت أن ما أنا عليه اليوم مرآة معكوسة لهذا الواقع الوهمي “جــــاد” موجود من لحم ودم، لكنّه صورة وهميّة على شاشة كمبيوتر، نتاجه متحرّك حقيقة في زمن حقيقي لكنّه ضوئي الصفات، غير ملموس صورته رقميّة (Digital) وبالتالي وهميّة، صوته رقمي وبالتالي وهميإتصاله بالآخر عن طريق شبكة اتصال رقميّة تثير التساؤل عمّا إذا كان “جـــاد” موجود فعلاً أم أنّه ابتكار وهمي لآخر صنعهالجواب أتلمّس جسدي وأحسّه إذا أنا موجود في مكان مادي ملموس وأرى نتاجي من على شاشة كمبيوتر فأشكُّ بوجودي الماديأتعرف أن أمثالي صدَفَ ودخلوا باتصال مع “كليو” إحدى المخلوقات المُبتكرة بالكامل على ماكينة كمبيوتر تحادثك وتخاطبك وتسألها وتجيبك وكأنها بالفعل جارتك في الشقة المقابلة هي في التأكيد أجمل وأذكى من جارتي في الشقة المقابلة؟
أين الحقيقة من الوهم؟
الواقع الوهمي الزمن الوهمي خط رفيع بات يفصل بين الواقع والخيال، بين الحقيقة والوهمقواعد الإتصال اختلفت، ومعها قواعد الوجود وهنا أعني الوجود الفكري والفنّي والثقافي إلخ القاعدة أصبحت “أنا على “الإنترنيت” إذا أنا موجود”، أنا على قرص CD-ROM إذا أنا موجود”“أنا في السينما والتلفزيون إذا أنا موجود” أما عن الكتاب والجريدة والبيان، فـ” أنا موجود”ولكن لفترة زمنيّة تحدّدها تطوّرات وسائل الإتصال الإلكترونيّة وأنا والأنا أصبح التمسُك بها نوعاً من الكفاح لا أريد أن أكون “موجوداً لفترة ما” أو كما يحلو للآخر التكنولوجي أن “يوجدني” أريد البقاد، وأحاول البقاء في هذا الزمن المعقود على الثورة المعلوماتيّة وثورة وسائل الإتصالأريد أن أبقى ليس فقط بحاضري الذي أنا فيه، وإنما بماضي أيضا” لذا ابتدأتُ قبل عام العمل على تجاوز حال القلق التى اعترتني وانتقلتُ بماضي لأراجعه على قرص مضغوط، مع ما يفرضه هذا النتقال من قواعد وشروط تقنيّة، ولكن، وهذا الأهم من شروط فنّية أسضاً
عملي الأخير هو بهذا المعنى إنهاء لحال الإنفصام، وفيه نوع من الأرشفة والتوثيق يجمعُ مُعظم الرسوم المنشورة والممنوعة من النشر، ومقالات “النقّاد”المتعلّقة بإنتاجي، وما كتبتُه وبعضُ المقابلات الُتَلفزة على مدى ٥١ عاماً خمسة عشر عاماً مضغوطة على قرص ومبوّبة ربّما لأسهّل على أولادي الأربعة في يوم ما مراجعة ما كان عليه أباهم والأولاد هم الحقيقة الوحيدة غير الوهميّة، وهم في التأكيد لن يبحثوا عنّي لا في كتابإذا وُجِدَ ولا في صالة عرض إذا وُجِدَت ولا في جريدة، انما على الكمبيوترلكن ما هو أهمّ من التوثيق، أن عملي هذا إعلان لفشل متعدّد الوجوهفشل ٌ لمشروع كان يطمح إلى خلق حركة للشريط المصوّر غير ما هي عليه اليوم فشل ٌ في التعبير عن حُلُمٍ بوطن غير ما هو عليه اليوم وهو فشلٌ لما تسمّيه “الحالة الثقافيّة اللبنانيّة” من الخروج من القوقعة التي أوجدت نفسها فيها، ومن المونولوج الذي تطربُ إليه وحدها دون سواها وما أحلى التعبير عن الفشل أو النهاية بنص يحملُ بداية جديدة وجماليّة جديدة ووسائل جديدة هذا ما يُعطي للفشل معناه، وللنهاية مُبرراً لبدايات جديدة
في ما يعنيني، قررتُ الخروج من الكهف ومغادرة القبيلة وسحرتها والإنطلاق وهذه المرة من دون توجيه الدعوة إلى أحد للمرافقة إلى عالم أوسع، وإنسان أشمل لصياغة نص أحدث ربّما هذا في جوهر عملي الأخير، أي محاولة بلورة نص آخر للحداثة صياغته لا تزال في بدايتها وإحساسي مع هذا الزمن المتسارع أنني أو من كان مثلي سأبقى دائماً في البدايات عزائي في ذلك أنها ليست بدايات من العدم ولكن من نهايات سبقتها
أقولها صراحة الحرب العنفيّة انتهت، وأنا غير آسف عليها، فحياة الإنسان الفرد أهمّ من كل موتى “التاريخ البطولي” و”العنفوان الفولكلوري”آن لنا أن نعي أن لبنان ليس “قطعة سما على الأرض بالكون تاني ما إلها”وتجربتي الفنّية الأولى انتهت، وأنا غير آسف لأنني أخوض تجربة جديدة ربّما تأخذ حيويّتها مما سبق ولكن في التأكيد على طلاق فنّي ومهني وتقني مع ما سبقها أيضاً و “الحالة الثقافيّة اللبنانيّة” كما تسمّيها انتهت وإن هي لم تعِ بعد نهايتها وأنا غير آسف عليها  ولم آسف عليها يوماً حتى في تجربتي السابقة التي كانت على تضاد معها فأنا اليوم أطمحُ لأكون جزءاً صغيراً من حالة ثقافيّة على مستوى الكرة التي نعيشُ فيها أما فنوننا وطريقة ممارستها انتهت إلى تزيينات طالونات أو فولكلور فواجع والأمر سيّان وفي أحسن الأحوال إفتعال لمناسبة إجتماعيّة لمجرّد الإجتماع والتسويقوأنا غير آسف، ربّما لأنني لم انتمِ يوماً إليها، أو ربّما لأن جيلاً آتٍ يتطلّعُ إلى مستقبل مختلف بوسائله وإتصالاته ومادة نقاشه وجدليّته وصراعاته وإذا تطلّع إلى “الحالة الثقافيّة اللبنانيّة”الحاليّة فإلى كونها تاريخاً غابراً لا يستأهلُ نفض الغُبار عنه وإذا مررت يوماً بصالة عرض وتطلّعت إلى ما هو مُعلّقٌ على جدرانها وما يقول، وإلى زائرها وما يقول، وإلى مديرها وما يقول، وإلى قصاصات الجرائد وما تقول وإلى تسجيلات الندوات وماتقول لأمكن فهم ما أعنيه
                                          ٢
في ما أقوم به “تجربة على تجربة لوضع نص جديد” كما تقول هو جزء من اختبار أوسع يواجه تساؤلات أعمق عن النص الفنّي والفكري والثقافي والإجتماعي على مشارف تهاية القرن محاولة للتساؤل عن أُفُق النص التشكيلي الحاضر ومدى فاعليّته وتأثيره أمام الهجمة التكنولوجيّة الحديثة ووسائلها الإلكترونية السمعيّةالبصريّة التي بات محسوماً أن الغلبة لها أسئلة تبحث عن أجوبة، عن صيغة العمل الفنّي ووسيلة إيصاله للناس صالة العرض أم شبكة الكمبيوتر، عن دور المتحف وماهيّته جدران مُغلقة أم شبكة الكمبيوتر، عن قراءة النص التشكيلي بعناصره الماديّة الجامدة أم حركة أضواء شبكة الكمبيوتر، عن الإتصال بالآخر وجهاً لوجه في المقهى أو الشارع أو صالة العرض أم عبر شبكة الكمبيوتر، عن طريق البيع والشراء النقد أو التحويلات الرقميّة عبر شبكة الكمبيوتر، عن تحصيل المعرفة الواسعة ما توافر من مجلاّت وكتب في مكتبات محلّية ضيّقة أم معرفة عالميّة عبر شبكة الكمبيوتر، عن أُفق حرّية التعبير الرقابة على الفكر والسياسة والفنون أو الإلتفاف عليها عبر شبكة الكمبيوتر تساؤلات لا تُحصى هي بحجم الثورة التي نعيش اليوم على مستوى الكوكب أذكر في هذا المجال كتاباً عن الرئيس فرنسوا ميتران مُنِعَ من النشر لكنّه وجد طريقه إلى “الإنترنيت” ولجمهور أوسع؟ لفرنسا والغرب رقابتها أيضاً
هناك من يقول أن اللوحة باقية رغم التطوّر التكنولوجي، كذلك الكتاب وصالة العرض والجريدة بما فيها وسائل ترويجها نعم بالتأكيد باقية اللوحة باقية كما بقي السجّاد والفن الخزفي وكل الفنون القديمة، لكنها مثل هذه الفنون ستصبحُ سلعاً نادرة لبعض مقتني التُحف وتخسر تأثيرها وتفاعلها مع الحالة الثقافيّة العامة والكتاب باقٍ بالتأكيد لكن لهواته من أمثال محترفي جمع الطوابع النادرة زيارة المعرض ستكون من على شبكة الكمبيوتر، وكذلك القراءة والكتابة والمراسلة أنت أدرى بأن الصحيفة التي تعملُ فيها أصبحت على “الإنترنيت” لماذا؟ حبّاً بالظهور أو لصرفِ فائضٍ من الأموال لديها في وقت اضطرّت إلى رفع سعرها للحفاظ على استقلاليّة استمرارها؟ أسمحُ لنفسي بالإجابة، لأقول أن القيّمين عليها كان لديهم الوعي اللازم في المرحلة المناسبة لينخرطوا في المسار المستقبلي للاإعلام ووسائل اتصاله تحيّة لبعد التظر هذا اليوم، جريدة على شبكة الكمبيوتر، وغداً يلحقها الكتاب واللوحة والأغنية، إلخ قد أبدو كمن يتحدّث عن أفلام الخيال العلمي Science Fiction  ربّما بالنسبة إلى البعض هنا، لكنه واقع حاضر يهيمن على العالم يوماً بعد يوم
                                             ٣
  إذا كان المقصود بعمليّة التركيب Assamblage المفهوم النظري القائم وراءها فإن هذا المفهوم له إشاراته في حركتنا التشكيليّة لدى بعض فنانينا الشباب ويمثّلُ محمّد الرواس حالته الأرقى، لكن النص التشكيلي المرافق لهذا المفهوم ما زال مرتبطاً باللوحة مساحة تسنده Support وهي تجربة تعود إلى عقود مضت في وقت ندقُّ أبواب القرن الحادي والعشرين المفاهيم الفنّية ركائز باقية لكنّها تتجدّد بإطلالتها في كل مرّة تنتج فيها التكنولوجيا أدوات ووسائل وتقنيّات جديدة، كما الموضوع الذي يتعامل معه الفنّان سيستمرّ ما دام الإنسان موجوداً لكن في كل مرّة تستعاد بصياغات جديدةوهنا تُصبحُ المغامرة اختبارية، أي عندما تنتقلُ من أدوات ومواد أسقطها الزمن لصالح أدوات مستحدثة فن التركيب الألكتروني Synthesis Art ربّما بدأ بنصّتشكيلي مشابه للوحة التقليديّة ونقله إلى شاشة الكمبيوتر، أي نقل الصورة نفسها من مساحة ماديّة القماشة إلى مساحة ضوئيّة الشاشة لكنّه اليوم أضاف إلى هذه الصورة أبعاداً أخرى فمن البعد الثنائي اللوحة إلى البعد الثلاثى المنحوتة أو التركيب Installation، نحن اليوم أمام البعد الرابع الحركة في الزمن كما في السينما وأيضاً البعد الوهمي أي عندما تضعُ القناع على وجهك “تسير” وأنت واقف فعلاً في عالم وهمي تراه وتلمسه وتسمعه وتتفاعل معه Interact ويتفاعل معك حتى أنه يمكن أن تحسّه، فيما هو غير موجود سوى في خلايا الدماغ وعدسات القناع الموصول كما جسدك بجهاز كمبيوتر هذه الأبعاد المختلفة إذا دُفِعَت إلى نهاياتها ربّما تؤدي بفنون حديثة كالسينما والتلفزيون والتصوير الفوتوغرافي إلى إعادة صياغة نصوصها وتقنيّتها وهذا ليس مستقبل بعيد مئات السنين فالكاميرا الرقميّة موجودة، والتلفزيون الرقمي قيد الإنتهاء والأفلام الرقميّة قيد التداول والسخرية المقرونة بالمرارة أن القسم الأكبر من مثقفينا لم يفق بعد من صدمة التلفزيون، ولا يزال يعاند الكمبيوتر، فماذا تراه يفعل أمام الآتي من الإبتكارات التكنولوجيّة؟ قد يدخل حل الكوما المواقف من الهاتف الخليوي خير مثال بغض النظر عن “لبننة” طريقة التعامل معه سواء من الشركات المسؤولة عنه أو من الجمهور العُرفُ هو“أن تكون مُثقّفاً هو أن تنتقد هذا الإبتكار البُدعة وإن كنت تملُكُ واحداً”، وأن تكون صحيحاً سياسياً Politicaly correct هو أن تنتقد وجوده الذي يرمز إلى “الغزوة الجديدة للغرب على مجتمعاتنا الإستهلاكيّة”، وأن تكون جاهلاً من العامة هو أن تتظاهر به وتتباهى كتباهي المرء بعشيقته قلّة ربّما لا أعرفها تعاملوا معه وسيلة اتصال نقّالة فعّالة تعتقني من قيود الزمان والمكان، وتقرّبُ المسافات بيني وبين آخر في وسط الصحراء هناك من ينتقد إلى اليوم الكهرباء والسيّرة “الشيطان الآتي من الغرب” في وقت يعلو الصوت لدى انقطاع التيّار أو البنزين
 التطوّر التقني وانفلاشه في المجتمع لسهولة اقتنائه أوجد حال انفصام بينه وبين التأمّل الفكري والحال الثقافيّة المرافقة له حال انفصام مرشّحة للتعمّق ليس بين التكنولوجيا وعامة الناس العامة تقتنيها من دون سؤال وتستهلكها من دون تفكير، لكن الخيبة أن الأنفصام يطال النخبة الثقافيّة العامة سبقت النخبة الى التكنولوجيا ولدى فقدانها عند النخبة المحلّية توجّهت إلى الخارجخُذ مثال الحال التلفزيونيّة عندنا فورة تلفزيونات مجهّزة ربّما بأحدث التقنيّات لم تنجح إلى الآن في استقطاب أو إنتاج حالة ثقافيّة محلّية فاستعضت عنها بشراء برامج من الخارج لماذا؟ لأن النخبة الثقافيّة لا تزال عند الورقة والقلم وفي الصحيفة والكتاب أي في عالم المطبوعات، وخَلَت منابرنا التلفزيونيّة إلاّ من بعض العروض الفولكلوريّة سواء الترفيهيّة أو السياسيّة أليس مُلفتاً أن برامجنا المحلّية تقتصر على الترفيه والسياسة، فيما الثقافة والمعرفة والفكر والعلوم وحتى الفنون مستورد من الخارج؟ جزء كبير من المسؤوليّة يعود إلى حال الإنفصام العميق بين نُخبتنا الثقافيّة والتطور التكنولوجي أي لغته وفلسفته
هذه الخيبة قد تؤدّي إلى إحباط لدى من وَضَعَ نفسه ضمن إطار جغرافي وبشري ضيّق الجغرافيا تتجاوز اليوم الحدود الأرضيّة إلى حدود إقتصاديّة أوسع ومعرفيّة أشمل العالم بات فعلاً “قرية صغيرة” كما يقولون ولبنان بالكاد يُشكِّل زاروباً صغيراً فيها لست مُحبطاً لأنني خرجتُ من هذا الزاروب، ومحاوري قد يكون في لبنان أو في أي بقعة أخرى من العالم، قد يتكلّمُ لغتي أو قد لا يُجيدها ربّما لاتهُمّ تجربتي الحاليّة أحداً محلّياً، لكنها تلقى بالتأكيد عيناً وأُذُناً صاغية في الطرف الآخر من الكرة
قد تُغلقُ عليّ الحدود، وتُقفلُ جميع الكتبات، وتُمنع دور السينما وصالت المسارح والتلفزيونات من بثّ وإشاعة ما لا يُرضي السلطة الإجتماعيّة أو الطائفيّة المحيطة بي،وقد يبنى حولي جدار بطول جدار الصين وأعمق من حائط برلين، يكفينيالإتصال بشبكة الكمبيوتر لأتجاوز ذلك وأسبح Surf في بحر العالم كلّه وهنا بيت القصيد في أكثر المجتمعات صرامة، يُركّبُ المواطن صحناً Dish على شُرفة منزله فينفتح على تلفزيونات وأخبار العالم أجمع والرقابة هنا تُصبح نظريّة، ويضعُ في غرفته جهاز كمبيوتر وجهاز اتصال ويغرقُ في متاهات المعرفة وحتى الترفيه في العالم بهذا المعنى تتساقطُ حدود الجغرافيا والسياسة والإقتصاد والإجتماع وتنطلقُ حدود الفكر والثقافةأين مثقفينا من هذا العالم؟ ولماذا الإحباط عندما لا أعود أسير مساحة ٠٠٤١ كيلومتر مربّع وثلاثة ملايين نسمة من القبائل والطوائف المتناحرة، في وقت أتحوّل إلى فرد حركته مساحة الكوكب وأفقه ملايين البشر من كل الأجناس والحضارات؟في الحقيقة أُفضِّلُ أن أكون فرداً عاديّاً في هذا البحر المعرفي المعلوماتي على أن أكون سلطة ثقافيّة على مستنقع إلى جفافأُفضِّلُ أن أكون سائحاً على “أوتوستراد المعلوماتية”Electronic Highway كما يسمّونه من أن أكون مواطناً مقموعاً في زاروب مُقفل
تجربتي مع الشريط المصوّر بدأت بدافع أن أعيش نبض عصري وزماني، أحاكيه، أسائله وأتعلّم منه، ولستُ اليوم مستعداً مع تجربتي الجديدة أن أتخلّف عن الإحساس بهذا النبض والإلتحاق بنخبة ثقافيّة باتت اليوم بعيدة عن محيطها مسافة لم تعُد تُقاس بالسنوات وإنما بالمسافات الضوئيّة
جورج خوري جــــــاد

Modernism "Evil" »شرُّ« الحداثة والعجز عن مواكبة التغيير


»شرُّ« الحداثة والعجز عن مواكبة التغيير
غالباً ما تُطالِعُنا الصفحات الثقافيّة في المجلاّت والصُحُف بمُقابلات مع مُثقَّفين أو فنّانين أو أدباء أو مفكّرين -وهنا،أي في المكان الذي نحن فيه يُمكن أن تكون الهويّة المهنيّة متداخِلة، أو بمقالات نقديّة -والأصحّ أنّها إنتقاديّة لعدم صلتها بالنقد بأي علاقة ولا تمرُّ المناسبة من دون الحديث عن »الحداثة« -وفي الأغلب عن مساوئها والتبرّؤ منها وكأنها شرٌّ مطلَق سقط الجميع فيه أيّام الشباب. ويجهد هؤلاء في »استحضار« تعابير مأخوذة في الغالِب من لُغة الماضي الثقيل وابتكار مفردات وجُمَلٍ -شعريّة أو سياسيّة في غالبِها لإظهار مساوىء هذه »الحداثة« رابطين إيّاها بالـ»تقدُّم التكنولوجي«الذي يخافُه الجميع والذي بات عندنا مُرادِفاً لـ»سلاح غربي جديد« للسيطرة على مجتمعاتنا »البريئة والمُقتنعة بحالِها«، مُبشّرين عن غير قَصدٍ منهم رُبّما -كي لا نُحاسِبَ النوايا بأن التمسُّكَ بـ»الأصالة والتراث والهويّة المحلّيّة«  هو السلاح ضد »وحش التكنولوجيا« الآتي لافتراسنا أو أن »القديم الثابت والمألوف« يحمينا من قيام »مملكة هشاشة« تقضي على ما بقي  ... والمُلفِتُ في هذه الرومانسيّة الشعريّة والعاطفيّة أنّها لم تحاول مرّة أنّ تُقدِّمَ لنا -عقلانيّاً ما تَفهمُه بالـ»حداثة« أو ما هي طبيعة وحقيقة هذا »الوحش« المُسمّى بالتكنولوجيا وصورته الأكثر شيوعاً الكمبيوتر... الذي بات الشيطان الواجب رَجمُهُ.
الخطأ الذي تقعُ فيه هذه الكثرةُ  من المُثقّفين -لأنها ليست قلّة أنها تضَعَ التقدُّم العلمي للإنسان القاصرة عن إدراكه -وإن كان من نتاج مُجتَمَعٍ معيّن في مُقارنة مع الهوّية الإجتماعيّة والثقافيّة والدينيّة لمُجتَمَعٍ ما... وكأن هويّتنا الشرقيّة تضيعُ إذا استخدمنا مثلاً سيّارة صُنع اليابان -ملاحظةهي بلاد شرقيّة أو أوروبا أو غيرها... أو كأننا نُصبِحُ تابعين للـ»غول« الأميركي -وهو غول في أي حال إذا اقتنينا جهاز تلفزيون من صنعه... صحيحٌ في أيّ حال أن استخدام هذه التكنولوجيا الجديدة يؤثِّرُ على نمطٍ في الحياة، وعلى طُرُقٍ  في العيش -أي العادات وليس الهويّة،فمن ينطلِقُ إلى عمله في السيّارة ليس مثل الذي يتوجّهُ إليه بفرسه، ومن يُخاطبَ الآخر في الهاتف ليس مثل الذي يضطرُّ للمناداة من فوق السطوح، وهذه كلُّها عناصر متغيّرة غير ثابتة... لكن هذا التقدُّم الذي يؤثِّرُ في العادات ويغيِّرها لن يؤثِّر ،إلاّ إذا أردنا، على القيم والمقاييس الأخلاقيّة والدينيّة والسياسيّة لجماعة في ما تُشكّله في ذاتها من إطار للهويّة... فالتكنولوجيا أداة لا أكثر، وهنا بيت القصيد ...
الخطأ الثاني، عدَمُ إدراك أن التطوّر العلمي للإنسان الذي ابتكرنا له تسمية التكنولوجيا في أيّامنا هذه لتمييزه عمّا سبقه من تطوّر في عصور سابقة، كان مُرادِفاً لتطوّر الإنسان عبرَ التاريخ إذا لم يكُن المُحرّك الأساسي له، إلى أيّ مجتمعٍ انتمى إليه هذا الإنسان. حيثُ ترافق  في كلّ مرّةالانتقال من مرحلة إلى أُخرى مع اكتشافٍ علمي جديد -إذا كان استخدام النار اليوم من بديهيّات الحياة، فأنّه لم يكُن كذلك في العصور القديمة حيثُ يُمكن القول أن اكتشافَهاُ تطوّر تكنولوجي بمقاييس التطوّر آنذاك... وسياق التطوّر نفسه شهدته المراحل  الفنّيّة التي يُمكنُ تقسيمها استناداً إلى التطوّر التكنولوجي -عُذراً من الفنّانين فالمقصود ليس الإنتقاص من رومانسيّتهم ... فالجداريّة أوجدها انتقال الإنسان من المغارة إلى العمارة واكتشاف تكنولوجيا جديدة غير البدائيّة، واللوحة اقتضتها ضرورة التنقُّل فأوجدت »التكنولوجيا« الحلّ بلوحة يُمكنُ نقلُها... و في المدارس الفنّيّة المُعاصرة، بدأت ثورة الإنطباعيين مثلاً مع بداية تصنيع الألوان في أنابيب، إلخ... حتى أنّ نشأة الفنون الحديثة البصريّة -التصوير الفوتوغرافي والسمعيّة-البصريّة -السينما والتلفزيون وغيرهاوتطوّرها ارتبطتا بالتطوّر التكنولوجي... الفارِقُ الوحيد هو المدّة الزمنيّة التي لزمت لاستيعاب التطوّر التكنولوجي في كلّ مرحلة وبالتالي القبول به... وإذا اقتضى الإنسان الأمر ألوف السنين للإنتقال من العصر الحجري إلى العصر البرونزي، فلم يحتج إلى أكثر من بضع مئات من السنين للإنتقال من التكنولوجيا الميكانيكيّة إلى التكنولوجيا الميكانيكيّة-الكهربائيّة واستيعابها والقبول بها... وفي كلّ مرّة كان العقل البشري الجماعي العام يستوعِبُ التطوّر التكنولوجي المحيط به... وهذا التطوّر لم يُصبِح مشكلة  إلاّ حديثاً مع الأنقطاع في التواصل بين التطوّر التكنولوجي السّريع -الألكتروني هذه المرّة والقدرة الجماعيّة للمجتمع -وللفرد على استيعابه وقبوله أيضاً...
وهنا جوهر مشكلة مثقفّينا... فالكمبيوتر-التكنولوجيا الألكترونيّة اليوم مثله الرّيشة التي يستخدمها الفنّان -تكنولوجيا الأمس من صنع الإنسان وليس الطبيعة، يُمكن أن تكون أداة للخلق والإبداع -إذا استخدمها فنّان،كون الأبداع في اللوحة وليس في الريشة وفي الصورة المبتكرة على الكمبيوتر وليس في الماكينة بذاتها...لكن الفارقَ أنّ الريشة غير غريبة عن عالم أي فرد في المجتمع -وخصوصاً المثقّفومقاييس ما تُبدِعُه من مكتسابته التي استوعبها عبر الزمن، فيما الكمبيوتر غريبٌ فعلاً عنه والوصول اليه هو كالبدء من الصفر... الفنّان يعرِفُ ريشته وألوانه ويتمكّنُ منها، والناقِدُ يعرِفُ مادّة هذا الفنّان ويمكنه التعامل ومقاييسها، لكن الأثنين لا يعرفان الأداة الجديدة وألوانها الضوئيّة ولا مقاييسها الجديدة -بداية تراجُع في المعرفة التقنيّة... فأصبَحَ الفنّان -الأديب، الناقد، أو أيّ مثقّفٍ آخر عاجِزاً عن مواكبة  اللغة »الحديثة« والمعرفة الجديدة في وقتٍ كان هو في طليعة الداعين إليها... وما يزيد في المشكلة  أنه كما أنّ لكلّ مرحلة -وتكنولوجيا فلسفة جديدة تعيد النظر في كلّ شيء بما فيها طرق الحياة والتفكير واللغة والمقاييس، فأن الأنقطاع بين المثقّف عندنا وهذه الفلسفة والرؤية الجديدة جعلت منه متخلّفاً عن مواكبة هذا التغيير الجذري وهذه اللغة الجديدة.... فهو بالكاد استوعب الثورة الصناعيّة وإذا به أمام ثورة تكنولوجيّة أخرى لا تواصل لها مع ما سبق أن عرفه أو خبِرَه... وبات أمام موقف من إثنين إمّا العودة إلى تأهيل نفسه من جديد لمواكبة التغيير، أو -وهذا الحلّ الأسهل المُتَّبَع عندنا التقوقُع في ما يعرِفُه من مسلّمات ومقاييس والإستمرار في ما هو عليه وتبرير هذا الأستمرار -والتبرير من أهمّ اجتهادات مُثقَّفينا إذا لم يكُن الإجتهاد الوحيد...وهنا تُصبحُ الحداثة »شرٌّ« يتهدّد الكيان -كيان المُثقّف وليس المجتمع والمكانة والمركز الإجتماعيين وبات من الواجب محاربتها بعدما كانت قبل الإنقلاب التكنولوجي مقياساً للتقدُّم و»الوجاهة« الفنّية والفكريّة والتعالي على المجتمع المحيط...
المشكلة الأخرى -وما أكثر مشاكل مُثقّفنا، أن المفهوم الحديث للحداثة -ليس في الواقع حديثاً كونه يعود إلى عقدٍ من الزمن مرتبط بعنصرٍين جديدين أدخلهما التطوّر التكنولوجي هما عنصر الزمن المتحرّك -وهو مايجهله مثقفّونا ربّما لتوقُّفِ الزمن عندنا والمفهوم الحديث للصورة -ونحن أهلَ خطابة أعداء مزمنين للصورة... فمقياس التفريق بين »الحرفة« و»الفن« مثلاً أصبح نسبيّاً ومرتبطاً بالتطوّر الزمني، وما يُطلِقُ عليه مثقفونا اليوم تسمية »حرفة« كان في وقت من الأوقات »فنّاً رفيعا«... حتّى أنّ اللغة اختلفت مع إدخال مفهوم الصورة image على ما تبتكره الفنون سواء كانت لوحة أو منحوتة أو مشهداً مسرحيّاً أو صورة فوتوغرافيّة إلخ... وبدل كلمة فنّان المرتبطة أساساً بالفنون اليدويّة باتت التسمية الأقرب اليوم إلى الواقع الجديد هي »المبدع« CREATOR أو »صانع الصور« IMAGE MAKER،. وانفصَلَ الفنّان عن الصنعة أوالحرفة التي يُتقنها وبات مطلوباً منه الإبداع والخلق وإن نفّذ آخرون تقنيّون ما يُريده -نعطي هنا مثال المخرج السينمائي...فمهمّته  باتت في مجال الإبداع -وليس المهارة اليدويّة في ابتكار »صورة« جديدة نابعة من »فكرة« جديدة و»موقف« جديد... وهكذا باتت الحداثة مرتبطة بالجديد الذي يبتكره الفنّان سواء استعان بالكمبيوتر أو بأي أداة تقليديّة أخرى... وهنا يتقدّم فنُّ الكمبيوتر رُبّما على غيره من الفنون كونه أداة جديدة تُعطي صوراً جديدة تَفتَحُ أمام الإنسان آفاقاً ورؤى جديدة... وهنا تبرُزُ المشكلة الأكبر، في عدم تواصل مثقّفينا مع الأجيال الآتية من عالم التكنولوجيا الجديدة  ولغتها وفلسفتها وطرق عيشها ومقاييسها... فالأثنان يتكلّمان لغة مختلفة... وإذا كان الصراع بين الأجيال قديماً قِدَمَ الإنسان فهو لم يشهد تباعداً لغويّاً على الأقلّ بينها، وهو ما يحصَلُ اليوم سواء في الموسيقى أو الأدب أو الفنون -من لديه أولاد بين مثقّفينا يُدرِكُ انقطاع التواصُل ... وكأن مثقّفنا استقال من مهمّته مُفَضِّلاً عليها اللعبة الاجتماعيّة-السياسيّة -ألم تكُن الثقافة دوماً دعوة إلى رؤية مختلفة، وإلى تفكير مُختلف وحياة ذات آفاق جديدة؟ أو أنّه لم يستوعب من الأساس »الحداثة«  فعلاً على رغم تبشيره لنا بها سابقاً واعتقد أنّه بفهمه العاطفي لها -مع أنّها مفهوم عقلاني بات مهيّئاً لدخول العصر الحديث -بعد غفوة قرون ومهيّئاً لمخاطبة المجتعات الأخرى ومستقبل القرن الآتي وإذا به بعيداً  حتى عن ثقافة الصورة لقرننا هذا الآيل إلى نهايته؟
 الحقيقة أنّ حضارة جديدة بدأت وإن كانت معالمها وأسسها غير محددّة نهائياً بعد، وهناك محاولة لم تتّضح بعد لبناء»نظام عالمي جديد« -ربّما غيرُ ما تدعو إليه الولايات المتّحدة ينقلنا إلى الألفيّة المقبلة...العالم حولنا يتغيّرُ جذريّاً... والسؤال إلى متى نبقى خائفين من التغيير؟ وإلى متى نبقى نتلقّى نتائجه مرغمين بدَلَ المشاركة فيه مختارين؟ سؤال برسم مثقفينا علّهم يدركون أن الإنسان هو الأساس، وهو رُبّما يقتُلُ اليوم ألوف الناس بواسطة الكمبيوتر ولكنّه يقتُلُ الألوف أيضاً ً بمحدوديّة رؤاه... المشكلة ليست في قبول هذه الأداة الجديدة أو رفضها فهي موجودة شئنا أم أبينا ودخلت إلى كل مكان، المشكلة هي متى تدخُلُ عقول مُثقّفينا وتُقرّبُهم منّا ومن المستقبل الآتي؟ 
جورج خوري -جـــاد