Thursday, October 22, 2015

Beirut Animated 2015


Beirut Animated 2015

"بيروت متحرّكة 4" وجوهه اللبنانيّة تتحدّى الخريف
تحيّة لـ"ألبا" تُجاور الموج والحبّ وتأشيرة الدخول

يعود "بيروت متحرّكة" في دورته الرابعة يدقّ النفير لجمهور هذا الفن الناشئ والمتصاعد في بلادنا (وكأنّه يدعونا عبر ملصقه لملاقاته في ساحة الشهداء كما العادة اليوم)، على رغم تحدّيات الظروف العربيّة، هو الذي طَرَح نفسه منذ البداية نافذة لأعمال التحريك العربيّة التي لا تَجِدٌ مُتنفِّساً لها على شاشاتنا المُثقَلَة بالترفيه والسياسة. فالثورات العربيّة أوجَدَت مناخات عَمَلٍ وإنتاج شبه مُستحيلة لصانعيها. ربّما هذا ما يُفَسِّر طغيان الاعمال الموقّعة من لبنانيين على ما عداها من أفلام عربيّة لا يزال يغيبُ عنها الأفلام الطويلة.
"بيروت مُتحرِّكة 4" بدا مُختَلِفاً هذه المرة. ربّما لأن لينا مرهج (المديرة الفنّية الحالية للمهرجان) أرادته أكثر إختصاصاً وَسَط منافسات أكبر ميزانيّة وأكثر قدرة على استقطاب نجوم (مهرجان دبي للرسوم المتحرّكة الذي لم يُبصِر النور بعد!). فكان التركيز على أفلام طليعيّة خارج سوق الإنتاج والتسويق والترويج العالميّة وإن كانت رائدة في مجال هذا الفن. من هنا كان اختيار الفنّان بيل بليمبتون ليفتتح المهرجان بفيلمه الجديد "الخيانة". هو الذي يُكرّر "أنا لا اصنع أفلاماً بالغة التقنيّة والكلفة مثل "بيكسار" (Pixar) لكن في التأكيد أكثر فنّيّة وذاتيّة وإنسانيّة منها". كذلك أعمال ماكس أندرسن وهيلينا أهونين الضيفين الآخرين للمهرجان مع فيلم "تيتو مُثَلَّج" عن الحروب اليوغوسلافيّة بعد وفاة "الديكتاتور الجامع" (محض صدفة أم قصد؟).
لينا مرهج وفريقها أرادوا النسخة الجديدة واضحة الهويّة: مُتخصّصة وغير تجاريّة تُعرّفُنا على أفلام وتجارب لا يٌمكن مشاهدتها على شاشاتنا السينمائيّة والتلفزيونيّة. إصرار أيضاً على محلّية العروض بمعنى أن الأفلام المعروضة، حتى العالميّة منها، اختيرت لأنّها شكّلت علامات فارقة ومحطّات تغيير في بيئتها قبل انتشارها عالميّاً (إذا حَصَلَ ذلك). هكذا حَضَر "O!PLA" المشروع الثقافي البولندي الذي انطلق قبل عامين في 51 بلدة للتعريف عن أفلام التحريك المُعاصرَة في هذا البلد حيث الجمهور وحده يختار الفائزين والجوائز. وعن الكلاسيكيّات اختيار أفلام أوسامو تيزوكا (1928-1989) الذي يُعتَبَر أحد أهم مطوّري فن "الأنيمي" الياباني.

"ألبا" ووجوه لبنان

وبحسب الرؤيا نفسها جاء التركيز على التجارب اللبنانيّة وتعريف الجمهور المحلّي بفنّانينه الذين يصنعون الفصول الأولى لهذا الفن الناشئ. والحَدَث هذه المرّة أن لينا مرهج استطاعت أن تجمَعَ هؤلاء الذين من أجيال ومدارس مُختلفة في فيلم قصير واحد قدّم كل فنان فيه بورتريه شخصي متحرّك يُعبّر عن عالمه بأسلوبه الخاص. وكأنها تريد أن تحفُرَ في ذاكرة الجمهور المحلي والقادِم من الخارج توقيعاً من فن التحريك اللبناني عبر وجوه صانعيه. الحدَث الآخر كان الفضاء الخاص الذي منحه المهرجان لـ"الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون" (ألبا) مع عَرض "كارت بلانش" لمشاريع تخرّج تلاميذ هذه التجربة الرائدة والوحيدة في بلادنا التي تعنى بهذا الفن أكاديميّاً. وفي اعتقادي أنّه آن الأوان لتكريم "ألبا" على الجهد الصامت والتربية الصارمة والمحترفة لأجيال من الشباب باتت أسماؤهم تلمع في عالم فن التحريك وآخرهم إيلي داغر وفيلمه "موج 98" الذي حاز على السعفة الذهبيّة لمهرجان كان 2015 عن الفيلم القصير. ولم ننسَ بعد أسماء أخرى شكَّلت إضاءات في مناسبات محليّة وعالميّة مثل سينتيا روفائيل، جاد ساروت، شادي عون وباتريك صفير وغيرهم.
والتجارب اللبنانيّة حمَلَت جديدها مع "قذيفة في كلّ مكان" (Un Obus Partout) لزافين نجّار الذي يعود إلى لحظات الحرب الأهليّة اللبنانيّة راوياً حادثة غابرييل الفتى العشريني الذي يريد أن يقطع خطوط التماس ليلتقي حبيبته ويختار وقت إلتهاء القنّاصين بمباراة المونديال. يُتقِنُ زافين الرسم المُسَطّح والألوان المختصرة واللعب بالكاميرا المُرافقة والمونتاج السريع ليركّز على شخصيّاته واللعب على حال انتظار ما قد يأتي ويُفاجئنا في نهاية شريطه.
لِيا نجّار العلامة المحليّة الأخرى مع "السيّدة الفراشة" (Lady Butterfly). تحريك دُمى تحبُسُ فيه أنفاسنا خلال 5 دقائق أوبراليّة تنتهي بنيران تراجيديّة. ولمتخصّصي هذا النوع من التحريك يعتبر التصوير الحيّ للنار الملتهبة مع تحريك الدمى في آن من أبرز التحدّيات. هنا نجَحَت لِيا يُساعدها اندرياس كيسلير في التحدّي وأعطتنا مُتعة بصريّة نادرة من قبل مبتدئة. وما يؤكّد احترافها لفن التحريك (تدرس الآن في أكاديميّة بادن فورتمبيرغ للأفلام) شريطها المرسوم الآخر "القطع" (The Cut) الذي رغم قصره ينمّ عن طاقة واعدة تستحقّ المتابعة.

موجٌ، حبٌّ وتأشيرة

من المحترفين ثلاثة أعمال لافتة وتعبّر صدفة عن مدارس مختلفة في فن التحريك. من لبنان يحضر بهيج جارودي مع "قصّة حبّ بـ7 فصول" (a love story in 7 chapter). ساخر، لاذع، غرائبيّ في تفاصيله إلى حد الاستفزاز، ينفرد جارودي عن غيره من اللبنانيين والعرب باحتراف آليات التحريك السهلة الممتنعة. يحيي مدرسة الخمسينات العالميّة لهذا الفن، يلعبُ بالتقنيّة والتحريك أمثال الكبار مختصراً الخط واللون إلى أقصى مداهما لإعطاء الحركة والتعبير الجسدي والوجوه أقصى فاعليّتها وتأثيرها على المُتلَقّي. ولمتابعي رسومه (illustration) أو أفلامه القصيرة التي تخطّت حدودنا شيوعاً، يبقى هذا الشاب المنزوي الذي يحاكي نفسه علامة فارقة عندنا.
"الموج" يأتي إلينا من سوريا ليستفزّ لامبالاتنا حيال مأساة ناس تعصُف بهم أعنف الأقدار الحديثة. بتقنيّة Stop motion وتوقيع لينا غيبة، مي غيبة، سوسن نورالله وإبراهيم رمضان، يبتعد الرباعي عن المتداول في السياسة ليركّز على الإنسان المأساة. من الإحتجاز إلى التعذيب فالهجرة والموت بالبراميل المتفجّرة أو خلال الهجرة والنزوح، يؤرقنا "الموج" بوجوهه المقنّعة وأجسادها المُرغمة على الحركة وأعينها المفتوحة وإن في الموت. بعيداً عن أيّ مباشرة أو استهلاك للحدث أو افتعال للمشاعِر، يترُك "الموج" فينا شعوراً يفوق بتأثيره كلّ ما عايشناه وما زلنا من مشاهد تملأ فضاءنا المرئي يوميّاً. وأعتقد أن الخلفيّات المختلفة للموقّعين (فن تحريك، غرافيكس، أفلام، شرائط مصوّرة) أغْنَت العمل وأعطته قوّته المؤثّرة. ربّما أيضاً أن بين معدّيه من عايش بعض حالاته (سوسن نورالله لجأت مع عائلتها إلى فرنسا فيما يعيش إبراهيم رمضان متنقّلاً عندنا متسائلاً عن مستقبل). يبقى "الموج" سورياليّاً في أجوائه، ومشاهده أقرب إلى الفن التشكيلي المُعاصر منها التحريك بمفهومه التقليدي (التأثير الواضح لمساهمة التوأم غيبة).
من عالم الفنون المعاصرة أيضاً تطلع علينا نادية الرايس من تونس في رائعتها القصيرة "سبعة أرواح" العنوان العربي لـ (Survival Visa) التي تحكي مآل وهواجس ما بعد الثورات العربيّة. في سيناريو متخيّل تأخذنا الرايس إلى عالم "الوكالة الوطنيّة والعربيّة للبقاء على قيد الحياة" التي تعلن كلّ فترة عن استقبال عدد محدود لطلبات تأشيرات لهذه الغاية. تلجأ إلى تقنية الرسم والتلوين اليدويّ لإضفاء النكهة الخاصّة بها بعيدة عن تأثيرات الكمبيوتر أو التقليل منها إلى أقصى درجة (هنا صدى لكلام بليمبتون). هي الآتية من عالم الشريط المصوّر ووراءها العديد من أفلام التحريك القصيرة. مُخلِصَة لمسارها التجريبي وهويّتها البصريّة، تأخذنا الرايس هذه المرّة إلى عالم النمطيّة في الشخصيّة العربيّة التي لم تُغيّرها الثورة ما يبرّر نمطيّة رسومها وأشخاصها.

"أشياء فعّالة" ومحاضرات

ولم ينسَ المعدّون الدور التأسيسي الذي دأب عليه لـ" بيروت متحرّكة" منذ انطلاقه. هذه المرّة كان مع ورشتي العمل التي خصّصتها الجامعة الأميركيّة في بيروت و"ألبا" لطلابهما مع بيل بليمتون وماكس أندرسن وهيلينا أهونين والمحاضرات المفتوحة لصيوف المهرجان أمام الجمهور في صالات متروبوليس نفسها. أما النقاشات فتمحورت حول ندوة "10 أشياء فعّالة وغير فعّالة" التي تواجه فنّاني التحريك عبر عرض التجربة الشخصيّة لكلّ من إيلي داغر، جوان باز، ستيفاني معوّض وكريم قبراوي كلّ من زاويته. ويأتي الموضوع وسط ضحالة الإنتاج العربي المتأثّر بالثروات العربيّة.
"بيروت متحرّكة 4"، على رغم تواضع إمكاناته والضآلة المحليّة للإنتاجات العربيّة في مجال فنّ التحريك (مثله الفنون الأخرى؟)، يُعطي خريف بيروت "نسمة ربيع" وَسَط تساقط الأوراق الصفراء في الفضاء العربي المحيط بنا... ربّما لأنه يصرُّ ويعانِد عبر وجوه حفنة من الفنّانين الذين وقّعوا دورته الحاليّة... وجوه تقول لنا عشقها الرسم والتحريك واللهو والتجريب...
جورج خوري (جـــاد)



Tuesday, October 20, 2015

Cairo Comics (2) 2015


Cairo Comics (2) 2015

"كايرو كوميكس" فتحت أمامنا "شكمجيّة" التيّار الجديد
شرائط مصوّرة محكيّة، شعبيّة، ومفتوحة على فضاء التجريب

في طريق العودة إلى بيروت في اتّجاه المطار، استوقفني عدّاد رقميّ كبير فوق مبنى يُعلِن في شكل آنيّ تعداد المصريين الذي تجاوز 89.7 مليوناً (لم أحفظ الرقم الكامل لكبره). ومن السائد أنّ ثورة مدويّة لشعبٍ بهذا الحجم لا بدّ أن تُطلق العنان لكمٍّ نسبيّ من الإبداعات. أو العكس في حال الردّة. "كايرو كوميكس" يؤكّد أن الشريط المصوّر المصري مازال يعيش الحال الأولى. إصدارات مستمرّة، بعضها يتوقّف بعد صدوره إمّا لخصوصيّةٍ لم يأتِ أوانها وبعيدة عن متطلّبات السوق الناشئة، أو لأن مموّليها حَدَتهم نزوة اللحاق بـ"موضة" رائجة أكثر منها المشاركة في تأسيس حالة ثقافيّة فتراجعوا. فيما بعضهم الآخر وَجَد "الخلطة" السحريّة فاستمرّ وأصبح مَعلماً ثابتاً في المشهد "الكوميكساوي" (كما تحلو التسمية للعاملين في مجاله).
قواسم مُشتركة تجمع الإصدارات الأخيرة. أوّلها الكتابة والتعبير باللهجة العاميّة. وكأن الصحوة التي رافقت الثورة كانت مصريّة قبل أي شيء آخر. وربّما هو الحنين إلى أيام العصر الذهبي ستينات القرن الماضي مع مجلة "سمير" حيث المحكيّة كانت من العوامل الأساسيّة لإنتشارها. أو في بساطة أن الشريط المصوّر هو فنّ رسم الحركة العفويّة اليوميّة وتعابيرها الشعبيّة أين الفصحى منها. ومنذ "مترو" المؤسس، يُصِرُّ رسّامو الموجة الجديدة في "توك توك"، "جـراج - ممنوع الوقوف"، "الشكمجيّة"، "فوت علينا بكرة" وغيرها من الدوريّات، على مخاطبة ناس يومهم من جيلهم وشارعهم بلغتهم. بها يتكلّم "الحج السايس" الأمّي عند شنّاوي، و"أمّ صدفة" للفنان أنور، و"سعيد متولّي" هشام رحمة. وقد يُمعِنُ آخرون من أمثال مخلوف وأنديل في المحليّة التي لا يفكّ رموزها غير ناسهم (حتى وإن كنّا نألف المسلسلات المصريّة).  

كُشَري وشكمجيّة

توجّه آخر مُشترك بين الإصدارات أنها مُلتزمة حالات مجتمعها وتعبّر عنه وإن ذهبت أحياناً إلى الذاتيّة. فالشباب ما زالوا في الحال الثوريّة ومآلها ولم يأخذوا منها مسافة بعد. قصص "الغلابة" و"الفلاحين" والموظفين المحبطين أو الشباب "الزُهُق" تطغى على صفحات "توك توك" الساخرة. وهو ما يجعلها المجلّة الأولى والأقدم وربّما الأكثر جاذبيّة بين مرادفاتها لإحترافيّتها العالية. وكأن شنّاوي اكتشف التركيبة السحريّة لـ "كُشَري" الكوميكس الذي وراء رواجها (ومن يتذوقّها يُدمِنها أكثر من غيرها) وجمَعَ فيها من أصبحوا أعلاماً: أنديل، هشام رحمة، مخلوف، توفيق، أنور إلى الشنّاوي نفسه.  أمّا "الدشمة" (عنوانها الآخر "أعرف حقوقك") فتلتزم مسؤوليّة التوعية القانونيّة لحقوق المواطنيّة ولشرعة حقوق الأنسان. وهي تذهب منحى أكثر جدّية سواء في قصصها المأخوذة من الواقع بأقلام إسلام أبو شادي، نائل الطوخي وآخرين أو رسوماتها الموقّعة من مجدي الشافعي، حسن ، أحمد سعد وكريم أحمد. فالحديث فيها عن "البلطجي" والعسكري ومصطفى المواطن العادي الذي تواجهه "المؤسسة". وليس غريباً أن يكون الشافعي مُحرّكها وهو أول من فضح "تركيبة" النظام السابق في ألبومها "مترو" الذي قاده أمام المحاكمات.
والالتزام عند "الكوميكساويين" لا يتعارض مع التجريب في حدود الشريط المصوّر نفسه. وهنا تفتح مجلّة "جراج – ممنوع الوقوف" للتوأم محمد وهيثم رأفت فضاء صفحاتها للاختبار الحرّ خارج القيود المألوفة للشريط المصوّر. وينتقل التعامل إلى المؤلف-الرسّام (author) الذي يضع أفكاره بريشته على أوراق جَهَدَ ناشروها على فنيّة طباعتها ومظهرها الذي أخرجها من شعبيّة الشارع شكلاً. نتعرّف على أسماء مبدعين مثل فريد ناجي، إسلام الشيمي، أحمد حسام، توفيج الغرائبي (توفيق؟) أحمد أنور المحترف، سارة خالد والمبدع المختلف شكلاً ومضموناً وتوقيعا:ً Flyin’ Dutchman (تيمّناً بأسم السفينة الشبح وقبطانها الغرائبي في Pirates of the Caribbean ).
"المرّة دي الشكمجيّة شايلة جوّاها حكايات عن العنف الجسدي والجنسي اللي بتتعرّض له البنت المصريّة في حياتها..." بهذه المقدّمة-المانفيستو تقتحم مجلة "الشكمجيّة" بتحدٍّ ومن دون مواربة تابوهات المجتمع الذكوري المصري ("الشكمجيّة" تعني بالعاميّة العلبة التقليديّة لحفظ الحلى النسائيّة). وإن كانت تصدر عن جمعيّة "نظرة للدراسات النسويّة" فلافت فيها مشاركة فنانين "ذكور" من الأعلام أمثال هشام رحمة و مخلوف وتوفيق وعكاشة وآخرون ليؤكّدوا عُمق التغيير الاجتماعي والفكري الذي يحمله المنخرطون في التيّار الجديد للشريط المصوّر المصري ويسعون لنشره ونلمُس بالمحسوس التغيير الذي أحدثته الثورة الشبابيّة الأخيرة. قصص "الشكمجيّة" مباشرة، عنيفة، استفزازيّة ومؤذية ربّما على شكل "ظاهرة التحرّش اللي بقت عاملة زي الوباء المتفشي في المجتمع... معليش". وتحيّة للشابات منى سنبل، دعاء العدل، منى عبدالرحمن، رانيا هلال، شيماء حامد وعائشة منصور، ورئيسة التحرير فاطمة منصور.

الفن التاسع

غزارة وتنوّع الإنتاج المصري للشريط المصوّر الحديث لم تأتِ من العَدَم أو بين ليلة وضُحاها. وهنا يلعب محمد الشنّاوي دوراً محوريّاً. وإلى كونه من الفنّانين الطليعيين ومن المؤسسين الفاعلين لمجلّة "توك توك"، لم تغب عن ذهن هذا الشاب الذي يعشق الكوميكس أن يؤسس لمجلّة ثقافيّة تُعنى بشؤون هذا الفن وتنشر ثقافته وتفتح للشباب نافذة التعرّف والتواصل مع انتاجاته العالميّة فكانت "الفن التاسع" (2012). مجلّة-جريدة تحفة في التصميم، تقع في 8 صفحات من القطع الكبير، تُعنى بـ"دعم ونشر ثقافة القصص المصورة في مصر والتواصل بين رواد هذا الفن في مصر والمنطقة والعالم". في صفحاتها جديد الكوميكس من مهرجانات ومعارض وإصدارات إلى ملفّات محوريّة تعريفاً بفنّان أو مدرسة فنيّة. وكونها صدرت بدعم من الاتحاد الأوروبي (الذي توقّف حديثاً للأسف) سعى شنّاوي الذي ساعده مخلوف في إدارة تحريرها إلى جعلها منصّة ومنطلقاً لتنظيم ورشات عمل وتدريب في العاصمة والمناطق يُشرف عليها محترفون محليّون ومن الخارج أبرزها ورشة "عاشت مطبوعتي حرّة مستقلة" عمل المشاركون فيها على إخراج جريدة مستقلة من ١٦ صفحة ملونة. إضافة إلى نشاطات مشتركة بين الفنّانين أنفسهم آخرها "24ساعة كوميكس" حيث اجتمع المشاركون لإنجاز قصة مصورة كاملة خلال 24 ساعة متواصلة أنتجت كتاب "حدث بالفعل" وهو موضوع اللقاء.
وإذا كانت المجلات المتخصّصة للكبار من علامات الدخول إلى عالم الشريط المصوّر الحديث، فإصدارات الألبومات هي العلامة الفارقة الأخرى (اللبنانيّون سبّاقون مع مازن كرباج، برّاق ريما، زينة أبي راشد، لينا مرهج، جومانا مدلج، عمر الخوري ومتخرّجو الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون " ألبا"). ولا يتوقّع في هذا المجال أن يكون الكمّ موازياً للإصدارات الدوريّة. فالقصّة تتطلّب نفساً روائيّاً وصنعة إحترافيّة إلى الوقت الذي يستغرقه الرسّام (وليس مجموعة فنّانين كما المجلّة) لإنهاء عمله. هنا استوقفني عملان روائيّان مميّزان، "في شقّة باب اللوق" (كتابة دنيا ماهر، رسوم أحمد نادي، إخراج جنزير) و"تأثير الجرادة" (رواية أحمد خالد توفيق ورسوم حنان الكرارجي). عملان يؤسسان لمسارين واتجاهين روائيّين مختلفين.
في "تأثير الجرادة"، وكنت أتمنّى للألبوم القياس الأوروبي وليس "المانغا"، تعتمد الكرارجي صرامة التقطيع في المشاهد، وتتقن اللعب على الكاميرا لترافق كثافة الحركة الجسمانيّة المكثّفة للشخصيّة الأساسيّة. ترسم بحرفيّة عالية وتعبيريّة تخلو من التفاصيل في قالب خيال علمي يستند إلى شخصيّات واقعيّة من أمثال حسني مبارك وأولاده، ومحمد البرادعي وآخرين. قصّة توفيق سياسيّة بامتياز لرجل لديه آلة تعود بالزمن ويريد استخدامها لوقف الثورة قبل حدوثها فيقع في النهاية ضحيّة السلطة التي أراد إنقاذها في رسالة واضحة أن الثورة وقعت ولا يمكن العودة بها إلى الوراء. في المُقابل تغوص دنيا ماهر في ذاتيّتها وهي تُخبرنا عن "شقّة باب اللوق" ومناخات شارعها  وناسها ويساعدها جنزير في التصميم الفنّي. وهنا تُبدِعُ ريشة أحمد نادي (اسم يستحقّ المتابعة مثله أنديل في المُقابل الكاريكاتوري). ربّما لأنه جاء من الفن التشكيلي احترافاً، وربّما أيضاً لشخصيّته الشعبيّة والحسّاسة في آن، بَرَعَ نادي بريشته المُرهفة في التقاط تفاصيل الشقّة المتداعية والمناخات الشعبيّة لشارعها بدكاكينه وأصوات صفارات إنذاراته وتوقُّف الوقت في مقاهيه وغزو "الدشّات" لسطوحه. وكم تفاجأت حين أعدّ لنا المركز الثقافي الفرنسي زيارة لأحياء العاصمة الشعبية ومررنا بباب أللوق، كيف تعرّفتُ إلى خطوط الحيّ ورائحته وضجيجه وكأنّي كنت هنا من قبل، ولكن في المرّة السابقة على الورق مع الثلاثي ، نادي، ماهر وجنزير.
"كايرو كوميكس" تذهبُ إليه مُتردّداً وتعود منه مُصاباً بعدوى مياه النيل.
جورج خوري (جـــاد)



Saturday, October 17, 2015

Cairo Comics (1) 2015


Cairo Comics (1) 2015

من القاهرة إلى بيروت... وعودة
"كايرو كوميكس" يستعيد الدور ويُطلِق حركة التغيير...

القاهرة - ....
لم يكن شباب "توك توك" يعلمون حين خرجوا لتوزيع العدد الأول لمجلّتهم أن الحراك في الشارع المقابل سيتطوّر إلى ثورة تؤدّي إلى إطاحة نظام. همّهم كان إطلاق حركة تغيير في "ميدان" الشرائط المصوّرة المحصور في عالم الأطفال، وركوده القاتل الذي أبعد بلادهم عن لعب أي دور رياديّ في هذا المجال. وفي المقابل، فاتنا نحن المقيمون خارج مصر، وبعد إخفاقات الثورات العربيّة، أن حركة التغيير (على الأقل في هذا الجانب) مستمرّة، وبدأت تُطِلّ بكثافةِ إنتاجٍ غير مسبوق لتعيد لمصر دورها الريادي الذي أبرزه المهرجان الأول للشريط المصوّر للكبار "كايرو كوميكس" (هناك إصرار على تعريب التسمية للمهرجان).
 شباب جاؤوا من لبنان، تونس، الأردن، المغرب، أو حضروا بأعمالهم لتعذّر حصول بعضهم على تأشيرات دخول من ليبيا والجزائر والعراق وسوريا وفلسطين. اجتمعوا، ناقشوا، تواصلوا، وتبادلوا التجارب عبر المعارض التي استضافها الحرم القديم للجامعة الأميركيّة قرب ميدان التحرير، إلى حلقات البحث الأكاديمي ومنصّات بيع المجلات والكتب (في الحرم نفسه) أوالطاولات المستديرة وحلقات النقاش الليليّة "ع السطوح" (التسمية الرسميّة الخلاّقة لها) التي جرت فوق سطح النادي اليوناني قرب ساحة محمد طلعت وسط العاصمة الخديويّة. ولم ينسَ المهرجان الذي أقيم بالتعاون مع المعهد الثقافي الفرنسي ومعهد غوته الإلماني، التقليد الذي تقوم عليه المهرجانات الدوليّة من إقامة ليلة الـ "Cosplay" حيث يتجمهر شباب (وبنات) متنكّرون بأزياء أبطال القصص المصوّرة وسط صخب مباريات الـ "Street Dance". وكان لافتاً مشاركة الشابات في هذه النشاطات والمحجّبات منهن (استمرار النبض الشبابي للشارع؟)

 نكهة مصريّة

السمة المصريّة كانت غالبة على المهرجان. من تسمية الـ"كوميكس" الرسميّة، إلى الهويّة البصريّة من الألوان والحروفيّة في المطبوعات والملصقات والمعارض، والعناوين الطريفة والمعبّرة لأمسيات النقاش: "المطبخ" (إدارة بهيّة شهاب وأحمد غربيّة) الذي تناول ظروف الإبداع ووسائل النشر والتعبير والمسارات الفرديّة للجيل الجديد من رسّامي الشرائط المصوّرة ومؤلفيها. "غرفة النوم" (إدارة لينا عطا الله والرسام محمد أنديل) والجدل حول التابوهات والإيديولوجيّات والسلطة السياسيّة وعلاقتها بالقصّة المصوّرة واختلافها بحسب تميّز البلدان العربيّة. وأخيراً "الصالون" (إدارة لينا غيبة والأميركي جوناثان غاير) والسؤال الأكثر إثارة: هل يمكن الحديث عن شريط مصوّر عربي جامع؟ أم أننا أمام تجارب محليّة خاصة في كل بلد مع طغيان اللغات/اللهجات المحكيّة على نتاج الجيل الجديد المتأثّر والمشارك في الثورات العربيّة. هنا تتعرّى "هويّات" المشاركين الأثنيّة والثقافيّة (وحتى الدينيّة أو المذهبيّة).
مصريّة كانت المعارض أيضاً. "زغلول أفندي" لأحد روّاد هذا الفن الراحل محيي الدين اللباد والذي جمع بعضاً من رسوماته الأصليّة وأخرى اشتهر بها ونُشِرَت في مجلات مصريّة وعربيّة "من المحيط إلى الخليج". وهنا تحيّة خاصة لمُعدّ المعرض ومُصمِّمه محمد الشنّاوي (العلامة البارزة في المشهد "الكوميكساوي" المصري) الذي جهد توثيقاً وتصميماً راقياً لمعرض بمصطلحات ومقاييس عالميّة. معرض آخر من مستوى مماثل هو "كوكب الرسامين" من إعداد وتصميم التوأم محمد وهيثم رأفت (من مؤسّسي المهرجان إلى الشنّاوي والمخضرم مجدي الشافعي) ويضمّ أعمالاً لناشئين من بين ورش العمل التي ينظماها تحت اسم "توينز كارتون". أما "شماريخ" (الأسهم الناريّة بالعاميّة المصريّة) فحوى مختارات لفنّانين شباب تقدّموا لمسابقات المهرجان وهي خمس: أفضل مجلة مطبوعة، أفضل قصة مصورة قصيرة، أفضل رواية قصص مصورة، أفضل مشروع قيد التنفيذ لـرواية مصورة/مجلة مستقلة، أفضل قصة مصوّرة منشورة إلكترونيا وأخيراً أفضل شريط (كوميك ستريب) في الصحافة المقروءة.
مصري الهوى كان ضيف شرف "كايرو كوميكس" الفنان الفرنسي غي نادو المعروف بـ"غولو". الرحّالة الذي حطّت رحاله في القاهرة في العام 1993 حيث استقرّ قبل الانتقال إلى قرية القرنة قرب الأقصر حيث عمل على القصص الشعبيّة المصريّة المعاصرة. بقي غولو متنقّلاً بين القاهرة و القرنة إلى 2011 وبدايات الثورة التي غادرها الى عاصمة الشريط المصوّر في مدينة أنغوليم الفرنسيّة. وفي دعوته للنسخة الأولى للمهرجان لفتة وفاء لفنان أحبّ مصر وناسها (نطق بلغتهم طول أيام المهرجان) ونقل ثقافتها الشعبيّة وتفاصيل حياتها اليوميّة في أعماله ومساهماته الدوليّة. أثّر كثيراً في رعيل الفنانين الذين انطلقوا فرادة في مغامرات للشريط المصوّر للكبار. وجوده كان أيضاً لتوقيع كتابه "ألوان العار" الذي أعيد إصداره باللغة العربيّة بمناسبة المهرجان عن دار "لافابريكا" المصريّة المتخصّصة حديثاً في نشر الكوميكس العربي.

حضور لبناني ونسائي مميّز

وكأن منظمي المهرجان أرادوا لمهرجانهم الأول دوراً عربيّاً جامعاً ومحوريّاً، فكان اختيارهم للمدعوّين العرب من الشباب الذين يشكلون الرافعة الحاليّة للشريط المصوّر في بلدانهم أو من مؤسّسي التغيير. وإذا كان الحضور اللبناني طاغياً فليس بصدفة وإنّما لمسار هذا البلد وتجربته الرائدة في مجال الشريط المصوّر للكبار منذ الثمانينات (وإن تكن تجاربه فرديّة ولم ترقَ إلى تشكيل حركة وجمهور): لينا مرهج، جنى طرابلسي، فؤاد مزهر وجوزيف قاعي من "السمندل" (لبنان)، وائل عتيلي وحسّان مناصرة (الأردن)، مهدي أناسي، زينب بن جلون (المغرب) وثنائي الدار البيضاء المبدع محمّد البلّاوي الملقّب "ريبيل سبيريت" (وهو كذلك) وصلاح مالولي اللذين عبر إصرارهما على إصدار مجلّة "سكِف كِف" و"دليل البيضاوي" كأنهما يحملان حركة التغيير المغربيّة على أكتافهما وحدهما. أما من تونس فسحرت نهى الحبيّب بتجربتها الرائدة مع مجلّة "مخبر 619" وعثمان سالمين. ومن جيل المؤسسين تبقى لينا غيبة من لبنان الحاضرة بقوّة سواء في إدارة الجلسات أو رئاسة لجنة التحكيم لجوائز المهرجان وفي اليوم الأكاديمي الطويل والحفل الختامي لتسليم الجوائز إلى جانب غولو وممثل مهرجان أنغوليم جان-بيار ميرسييه.
وإن كان بعض المشاركين سبق أن زار لبنان وتمّ التعرّف إليه في مناسبات مختلفة، فأن المفاجأة الكبرى كانت "إكتشاف" فنانين ومؤلفين مصريين لم يعبروا الحدود ويشاركون اليوم في صناعة المشهد المعاصر للشريط المصوّر القاهري. وعدا الذين وصلت إلينا إصداراتهم نحن المتخصصين في هذا المجال، هناك كمّ من المحترفين وإن حديثي الظهور يملأ فضاء الفن التاسع في حركة واعية وهادفة ترعاها منظومة مكتملة من رسامين عددهم يتصاعد وإصدارات متواصلة ودور نشر وجمهور موالٍ وسوق (نَقَلَ إليّ ممثل للمعهد الفرنسي أنه في ليلة إطلاق إحدى المجلاّت وحدها بيعت ألف نسخة منها، وهو رقم يحلم به أي ناشر شريط مصوّر في أي بلد عربي وإن على مدى سنوات). الملاحظة الأخرى أن كلّ الإصدارات يغلُب عليها الهاجس المحلي والشخصي مهما تعددت الأساليب أو المواضيع، لذا نرى اللهجة المحكيّة طاغية ومضمونها الشعبي صعب المنال أحياناً لإغراق في الخصوصيّة المحليّة. علامة أخرى اعتدناها في لبنان وتفاجئ المواكب للمشهد المصري، وهي العدد المتزايد للحضور النسائي لرسّامات وكاتبات الشرائط المصوّرة (الجوائز غلب عليها الطابع النسائي) إلى حدّ إصدار مجلّة كوميكس نسويّة تعنى بمشاكل المرأة المصريّة وفي مقدّمها التحرّش الجنسي ("الشكمجيّة" والتي تعني بالعاميّة العلبة التقليديّة لحفظ الحلى النسائيّة).
في طريق العودة إلى بيروت، راودني أن انطلاق فن الشريط المصوّر العربي مع مجلّة "سندباد" ترافق مع ثورة يوليو 1952 وانتشرت إلى أن صادَرَتْها السلطة السياسة شكلاً ومضموناً خصوصاً بعد هزيمة 1967 حين انتقل ثقل الإنتاج وريادته إلى بيروت. وعشيّة ثورة "يناير 2011" أطلق "مترو" مجدي الشافعي ومجلّة "توك توك" وما تلاها من إصدارات الحركة الحديثة للكوميكس المصري. خوفي من أن تنتهي هذه التجربة مُصادَرَة كما الأولى كوننا اعتدنا تكرار التاريخ. لكن النظر في عيون شابات وشباب "كايرو كوميكس" ومُلامسة الحماس والإصرار (وإن غير المنظّم) ينشروه أينما حلّوا وكأنه عدوى، يترُك مجالاً للحُلم بأن الاستفزاز الحالي سيستمرّ.
أليس الشريط المصوّر بتحديده الأوّل حُلُماً يستفزّ الواقع؟
جورج خوري (جـــاد)

بطاقة "كايرو كوميكس"
-        المؤسسون: مجدي الشافعي، محمد الشنّاوي، التوأم محمد وهيثم رأفت.
-        الجوائز:
1.      أفضل رواية مصوّرة منشورة: "تأثير الجرادة" – رسوم حنان الكراجي
2.      أفضل قصّة مصوّرة قصيرة: "الملائكة تنام في البحر" – ميغو
3.      أفضل مجلّة مطبوعة: "مخبر 619" من تونس
4.      أفضل سلسلة ألكترونيّة: "قاهرة" – دينا أحمد
5.      أفضل مشروع قيد التنفيذ: "بدون عنوان" – ريهام حسني
6.      أفضل شريط مصوّر للصحافة: أحمد عكاشة – عمرو الطاروطي