Monday, November 30, 2009
بيروت متحرّكة - الأثنين 30 تشرين الثاني 2009
تؤسس لذاكرة جماعيّة محلّية لفن التحريك
"بيروت متحركّة" شباب من عندنا أعطوها حقّها
أن يقيم أحدهم تظاهرة عندنا خاصة بفن التحريك (of Animation Art) ، خطوة تستحق التنويه. وأن تكون الغاية بحسب ما أعلنته منظمة "بيروت متحرّكة"، هانيا مروّة، تعريف جمهورنا بما لا يصله من هذا الفن الذي يغزو صالاتنا وأصبح له متتبعوه ومريدوه، طموح يعطي حاملته مشروعيّة الاستمرار، هي التي صقلتها تجارب تنظيم النشاطات السينمائيّة وآخرها مشروع "متروبوليس" مع عروض "صالة صوفيل" المغايرة. ربّما هنا الالتباس الذي وقعت فيه مروّة حيث أن هذا الفن ليس من السينما، وهو له مهرجاناته العالميّة المستقلّة والمختلفة بنيةً وتنظيماً، كما أنه بعيد عن فن الشريط المصوّر الذي له أيضاً مهرجاناته المتخصّصة، وهو الالتباس الآخر الذي وقع فيه أيضاً الشريك في هذه التظاهرة متمثّلاً في جمعيّة "السمندل".
نحن إذاً أمام مبادرة كان يجب أن تكون. وفكرة في مخيّلة هانيا مروّة كان يجب أن تولد وتأخذ شكلاً فيه الكثير من التحدّي في بلاد مشهورة بمبادرات الأفراد فيها يساندها القطاع الخاص المحلّي أو المدعوم من الخارج. أتت المناسبة لتكون أكثر من مجرّد سلسلة عروض مبعثرة، لكن في التأكيد أقلّ من مهرجان متخصّص، وهو ليس المحاولة الأولى كما وصل إلى الصحافة. هل نتذكر مهرجان 2003 الذي أعدّته ريتا صعب مكرزل؟
"أين يقف الإنتاج المحلّي (اللبناني والعربي؟) من هذا الإنتشار (لفن التحريك)؟ أيّ مواضيع تُطرح للمناقشة؟"، سؤال أثارته المقدّمة في المنشور الموزّع على الجمهور، ونعيد طرحه على سائله. في الشكل، كنت أتوقّع أن تشمل التظاهرة جميع فئات فن التحريك فلا تقتصر على الأفلام التجريبيّة القصيرة، وهو الأساس الذي قامت عليه المناسبة، والأفلام الطويلة، القليلة والأجنبيّة باستثناء العرض السوري، وأن تتعداها إلى الإنتاجات التلفزيونيّة المتحرّكة، فالعروض الدعائية والأعلانية الغائبة كلّياً، حتى لا نغالي ونتوسّع إلى ألعاب الفيديو والغرافيك المتحرّك والتحريك على الإنترنت (web Animation) وغيرها، وهي كلّها تُنتَج في منطقتنا المتوسّطية ولها صانعوها وسوقها وجمهورها الأوسع.
لم أفهم التجهيل المتعمّد للمحترفين من اللبنانيين والعرب. غياب أسماء مخضرمة من عندنا مثل لينا غيبة وبهيج جارودي وفولفيو قدسي وهاني بعيون غير مبرّر، وقد توقّعت أيضاً تكريماً للفنان إدغار آحو على مجمل إنتاجه وهو غاب عنّا في ذروة عطائه الفريد. مثله، غياب مؤسسات مثل "تلفزيون المستقبل" الذي ينفرد بإنتاج مختلف أنواع التحريك منذ ما يقارب العقدين، أو استوديوات "هدجهوغ" أو "استوديو أميل عضيمي" على سبيل المثال لا الحصر. مفاجئ أيضاً الغياب الكامل للمحترفين المصريين، حيث ان جامعة المنيا السبّاقة في تقديم برنامج تعليم جامعي خاص بفن التحريك في منطقتنا، تخرّج سنوياً ما يقارب 100 طالب ينضمّون إلى السوق المحليّة، أو غياب الاستوديوات المصريّة، وعددها يفوق الخمسين، تنتج وحدها ما يفوق جميع الدول العربيّة مجتمعة، مع التذكير بأن أول فيلم متحرّك عربي "مشمش أفندي" من إنتاج الخمسينات صُنِعَ في القاهرة. هذا من دون الحديث عن المغرب العربي الحاضر بخجل، أو الإنتاج الخليجي، اللاعب الجديد في عالم التحريك العربي.
ربما لأن فريق العمل والإعداد الذي هو أيضاً "لجنة التحكيم" للأعمال المبرمجة للعروض، قادم من خارج عالم فن التحريك (لينا مرهج الإستثناء الوحيد)، وغير ملمّ بتفاصيل أسواقه وانتاجاته وتاريخه عندنا، حيث أن ذاكرتهم لم تذهب أبعد من "غرندايزر" ومحت ما حصل من وقته إلى اليوم. ربّما هذا ما يفسّر أيضاً لغز اختيار الروبوت الياباني لتمثيل أيّام "بيروت متحرّكة"، دونه أي شخصيّة متحرّكة لبنانيّة أو عربيّة أو أوروبيّة أو أميركيّة، وغياب الندوات والمحاضرات التي تُرافق عادة مهرجانات مماثلة. وربما هنا أطلب الكثير من محاولة أولى!
أما في المضمون، والمقصود هنا الأفلام المعروضة، وانسجاماً مع "أين يقف الإنتاج المحلّي"، فسأتوقّف عند المشاركة اللبنانيّة في "بيروت متحرّكة"، وبعض الذين أنقذوا هذه التظاهرة من تقصيرها غير المقصود، وسنتذكّر في التأكيد أسماءهم لسنوات مقبلة لما حمله إنتاجهم من فرادة واحتراف.
غسّان حلواني في "تخبُّط"، وهو أيضاً عنوان أغنية تامر أبو غزالة التي تمتدّ على طول شريطه القصير، ذهب بعيداً في صوغ لغته التي كانت تبحث عن أسلوب في فيلمه الوحيد السابق "جبل طارق". رسّام متمكّن، خطوطه "خام" بالأسود والأبيض، عالمه درامي، حركة أشخاصه مقتصدة، يعوّضها إتقان تحريك الكاميرا. مأخوذ بمدينته والكورنيش، حيث المدينة على الشاطئ عنصرٌ جامع لدى العروض البيروتيّة. يذكّر بأجواء الشريط المصوّر التعبيري وإن كان واضحاً أنّه لم يقلّد أيّاً منها. عينٌ حسّاسة ترافق يداً متوتّرة لتنتج سكينة تكسرها الكلمات والأنغام في الأغنية التي كادت تطغى عليها. تذكير أن شريط مقدّمة عروض "بيروت متحرّكة" من رسومه.
إسم آخر سيرافقنا من الآن هو شادي عون. "أهاوا" شريط يهذي صوراً وحركة وخيالات. المقصود هنا ظلال الراقصة ناديا، التي تتفلّت من جسد صاحبتها لترقص الحرّية فوق سطوح المدينة. جميلة بيروت من فوق، ومتحرّكة فعلاً، وهذا يعطي وأصحابه معنى لعنوان المناسبة. يتقن دقّة التحريك الذي لا يهدأ رسماً وكاميرا. كأنها عين متلصّص تحاول أن تلحق بظلال ناديا التي نخاف عليها من أن يأكلها اللون الأسود. غريب كيف أننا لا نلاحظ أنه أيضاً لون الظلال. خمس دقائق خطفت أعيننا وأنفاسنا، وكأن شادي عون أراد أن يترك فينا إدهاشاً بصريّاً يتجاوز فيه المكتوب والمسموع.
فنّان آخر من "جيل ألبا" هو إيلي داغر. يأخذنا إلى لحظة مستقبليّة سوداء من بيروت، في شريط بالألوان. المدينة التي من المفترض أن تجاور البحر، نضبت فيها المياه حتى من بحرها. التقاتل على جرعة توزّع كالأعاشة، تخطفها فتاة فيطاردها جمع للإنتقام. شخصيّاته نظيفة الرسم واللون، وحركاتها بهلوانيّة، كذلك كاميراه. هنا أيضاً المتعة البصريّة الحرفيّة التي باتت في ما يبدو سمة المعهد الذي يتخرّجون فيه. وعلى رغم الحالة "الأبوكاليبتيّة" للمكان الذي يصوّره إيلي داغر، فهو نجح في إبقاء ملامح بيروت في تفاصيل كدنا نخالها غير ذات أهمّية، فإذا بها المكوّن الأساسي لهويّتها.
جاد صاروط في "زيد وليلى" من إنتاج المعهد نفسه، يحاول إدخالنا إلى الجنّة من طريق سيناريو، فيه من التهكّم والجرأة ما هو غير مألوف عندنا. سخرية سوداء يسردها علينا ببساطة خطّ ولون، تقابلهما حركة لا تهدأ للشخصيّات والكاميرا. يقلّل من التفاصيل المرسومة، يقتصد في الألوان، يتعمّد الإبتعاد من المؤثرات البصريّة. ربّما لجعل المشاهد يركّز على الشاب والفتاة، الشخصيّتين الوحيدتين في الشريط، وتطوّر علاقتهما من الغرام إلى التنافس، فالتباعد، فالأذى، لينتهيا بممارسة الحبّ بشغف على عتبة باب الجنّة وفي عالم الموت المعلّق، فيصل صداه إلى تحت، إلى المقبرة، التي تهتزّ مع لحظة بلوغ نشوة الجماع. لفتني أنّ هؤلاء الشباب، لرهافة إحساسهم أو لعدم اكتراثهم، لم يتقدّموا للتعريف بعروضهم، وكأن أضواء المناسبات تؤذيهم أو لا تغريهم، فتركوا أعمالهم تقوم بالمهمّة عنهم.
من مشاركة الجامعة الأميركيّة في بيروت، يبقى مشروع "دورافور مون أمور" أكثر من مساهمة جماعيّة لطلاّب يأخذون حصّة دراسيّة، وهنا سبب تناوله. هو تحيّة فنيّة لمَعلَم من فترة الحروب عندنا عبر فن الغرافيتي وفن التحريك تحت العنوان الأساسي "لو تنطق الجدران، جدران متحرّكة"، وكنا شاهدنا عرضاً بالتقنيّة نفسها للأرجنتيني "بلو". أهميّته أنّ التحريك عندنا ينتقل للمرّة الأولى من الورق والشاشة إلى الأسمنت المديني، فتحيّة لصاحبة الفكرة لينا غيبة "الغائبة" عن المناسبة! تجربة رائدة في أحد فنون التحريك اجتاح هذيانها البصري ما كان تبقّى من جدران المبنى الذي انتهى هدمه أخيراً. نتوقّع لبعضهم التفلّت من الحلقات الدراسيّة والإنضمام إلى احتراف فنّ التحريك. نذكر: حامد سنّو وفؤاد مزهر، والأخير يملك من المهارة والإنتاج ما يفوق الذي شاهدناه على جدران دورافور.
هنا أحب أن أختم مع "كمان سنة" لينا مرهج التي عوّدتنا تمايزاً في شرائطها المصوّرة. عَرَضت أربعة من حملة ترويج (ثوانٍ لكلٍّ منها) لمنظّمة "أسكوا" التابعة للأمم المتّحدة في مناسبة "يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني". شاركها في التحريك كريم فرح ومايا الشامي، ونصوص لها ولأقلام مهنيّة محترفة: ماهر أبي سمرا، منى أبي ريّان وسحر مندور. لينا مرهج استمرّت كما هي منذ شريطها القصير الأوّل "رسم الحرب"، شفافة، ذاتيّة، ملتزمة قضايا الأنسان، اختطّت لنفسها أسلوباً لا يتقنه سواها، وعاشقة للأسود والأبيض حين تريد أن تروي شرائط مصوّرة ورسوماً متحرّكة. ملاحظة: النصّ المحكي بأسلوب غناء "الراب" لم يكن دائماً مفهوماً لديَّ، مما أفقد الرسالة بعضاً من خصوصيّتها التي يوضحها أكثر الكتاب الذي يحمل العنوان نفسه ووزّع في نهاية العرض.
في علوم الإجتماع أن المهرجانات والمناسبات المنظّمة تساهم، إذا استمرّت دوريّاً، في خلق ذاكرة جماعيّة وتؤسس لتأريخ يرتبط بالحدث والمكان. وفي اعتقادي أن الدورة الأولى لـ"بيروت متحرّكة" أوجدتها الحاجة المحلّية الى إعطاء التحريك عندنا مشروعيّته واستقلاليّته فنّاً وإنتاجاً وجمهوراً. وهنا أصابت هانيا مروّة التي ندعوها وفريقها إلى ترجمة ما دعتنا هي إليه، "إلى رحلة تغوص في قلب عالم التحريك، لنكتشف معاً بيروت، متحرّكة".
جورج خوري (جاد)
Posted by
J A D
Labels:
A N - N A H A R,
T E X T
Tuesday, November 24, 2009
Sunday, November 22, 2009
جمانة مدلج - الثلثاء 24 تشرين الثاني 2009
أوّل "بطلة خارقة" من نسيج بلادنا، 3 كتب وموقع إنترنت
"ملاك" جومانا مدلج يأتي من الميثولوجيا ليخلّصنا
رحّالة، مغامرة، شابة تُتقنُ فنون قتال الـ "تاي تشي" الصينيّة وتُعلّمُها، متشبّثة بأرضها (وهنا بلاد الأرز "الأبديّة")، صاحبة قضيّة، معاصرة للتكنولوجيا.... هذه جومانا مدلج في الواقع، شخصيّة يمكن أن تكون مستوحاة لشريط مصوّر، وربّما لذلك أتت "ملاك" شخصيّتها المرسومة تُشبِهُ كل ما هي عليه باستثناء القوى الخارقة. وكثيراً ما تساءلت، ومن عرفها معي، أين تجِد الوقت لترسم وتُعدّ كتباً للأطفال، لتعمل على رسوم متحرّكة صغيرة، تقيم معارض، وتبتكر وتنشر شرائط مصوّرة (باللغات الشائعة عندنا: "اللبنانية"، الأنجليزية والفرنسيّة) وأبرزها سلسلة "ملاك" التي تُنهي ألبومها الثالث على صفحات الأنترنت، لتجد طريقها مطبوعة في المكتبات قريباً كما فعلت بالعددين السابقين، ربّما لقناعة منها أن جمهور صفحتها الرقميّة أوسع وأحقّ بالمتابعة من قرّاء كتبها التي تنشر لاحقاً للأحتفاظ بها فرديّاُ.
ومنذ عرفتها في قسم التحريك في تلفزيون "المستقبل" حيث عَمِلَت لسنتين، تستغلّ جومانا مدلج كل فرصة للسفر إلى حيثُ لا نتوقّع: مدغشقر وجزر موريس، فيتنام، لاوس، بربادوس (شرق الكاريبي)، بوفوثاتسوانا (جنوب أفريقيا)، سريلانكا، أثيوبيا وكثر غيرها.... ومثل أي مُستكشف، تعود بمدوّنات خاصّة بكل رحلة، تتضمّنُ صوراً، ونصوصاً وأشياء تعكس "الثقافة المحليّة" - فقصدها ليس السياحة وإنما الأختبار - إلى جانب كمّ هائل من الرسوم التوثيقية لأشكال ، ملابس وأدوات ناسها وطبيعة بلادهم و أهتمامها بالعادات والمعتقدات المحليّة الدينيّة منها والخرافيّة، وخصوصاً رموزها الغرافيكيّة.
"ملاك" تبدأ مع صفحة أولى من صور فوتوغرافيّة مركّبة من شوارع الحرب المدمّرة "التي امتدّت إلى أقاصي الجبل ولم تستثنِ أقدم قاطنيه" أي غابة الأرز، التي تقرّر أشجارها الأزليّة حماية أبناء الجبل "فلنرسل لهم حارساً على صورة إنسان"، وتقوم بتحويل إحدى ثمارها فتسقط بشكل رضيعة يلتقطها أحد الرعاة فيأخذها إلى "أبونا" الكاهن الذي يعتقد أنها ضحيّة إحدى مجازر الحرب. عندها يقرّر الراعي أخذها إلى "حكيم بشرّي حتى نلاقي حدا ياخدها" (والنص في النسخة العربيّة بالمحكيّة اللبنانيّة). عند بلوغها الثامنة عشرة تغادر منزل والديها بالتبنّي (لا نعرفُ عنهما شيئاُ) لتلتحق بـ "الجامعة اللبنانيّة" وتقيم في بيت متواضع للطلبة في العاصمة فتبني لنفسها مجتمعها الصغير من الرفاق. عندها فقط تتعرّف "ملاك" على حقيقة حرب الشوارع والميليشيات التي تتواجه وتكتشف صدفة قدراتها الخارقة التي تجعلها تميّز بين البشر و"الجنّ" الذين يديرون المقاتلين، وتبدأ تواصلها مع "حارس" آخر مثلها من الميثولوجيا الفينيقيّة: "الحصان البحري المجنّح" الذي يُدمَغ رمزه على رقبتها (ننتظر "طائر الفينيق" في أعداد مُقبلة؟). مهارتها القصصيّة أن بطلتها – والقارئ معها – تكتشف قواها تدريجاً على مدى الكتب الثلاث، كذلك أنواع "الحراس" و"الجن والعفاريت" تأتينا تباعاً، فتبقينا في شوق انتظار غير المتوقّع من مفاجآت.
مباشرة وشفافة إلى حدّ السذاجة هي جومانا مدلج. إن كان على مستوى الحبكة القصصيّة ومراجعها الفكريّة والثقافيّة و السياسيّة، أو على مستوى الرسم أسلوباً ومراجع بصريّة. واعتقادي أن هذا الأهتمام الشخصيّ بالمعتقدات والخرافات والرموز إضافة إلى تمسّكها المُعلن بـ"لبنانيّتها" وتعمّقها بالميثولوجيا الفينيقيّة، وراء ابتكار شخصية "ملاك" وشخصيات "عوالم الجنّ" المواجهة لها، في أرضٍ مسرحها الحرب الأهليّة عندنا وتحديداً العاصمة بيروت. وتصرُّ هنا على استخدام الكثير من تعابيرنا المحليّة حتى في نسختيها الأنجليزيّة والفرنسيّة (تترجم معانيها في آخر الكتاب تحت باب ملاحظات "لمن لا يعرف العربيّة"). تكفي مراجعة موقعها على الإنترنت الذي يحمل عنوان "بذرة الأرز" www.ceaderseed.com لملاحظة سعة بحثها في كل التفاصيل الرمزيّة والبصريّة الفينيقيّة ومكانة ورمزيّة "أزليّة الأرز" لديها. ويمكن القول أن "ملاك" هي أول شخصيّة لـ "بطل خارق" Super-Hero مستوحاة من اساطيرنا ومعتقداتنا المحليّة، كذلك خصومها من الجنّ والشياطين والعفاريت. وكأنها تريد أن ترجع إلى ماضينا البعيد آلآف السنين، إلى الكتاب الأول ما قبل التاريخ، إلى الحالة البدائيّة للـ"الهواء والنار (عالم الجنّ) والماء والأرض-التراب (عالم البشر)" تستحضر صراع قواه الخارقة في عالمنا اليوم.
وببراءة طفوليّة، تتعمّدُ جومانا مدلج عدم الغوص في تفاصيل تعقيدات مجموعاتنا وطوائفنا فتبقى فوق سطحها، وكأنها وجدت طريقها إلى إعفاء اللبنانيين مناالخطيئة الأصليّة في افتعال أسباب الحروب عندنا وتحميل مسؤوليّتها إلى تدخّل "عالم الجنّ" في شكل خفيّ عن طريق الميليشيات المتصارعة في تحديد مسار حياتنا، فيما "ملاك" تأتي لتقف إلى جانب المواطنين المغلوب على أمرهم، اللذين لا يجدون من يحميهم سوى "سريّة الدفاع عن المواطن" (هيئة شعبيّة على غرار الدفاع المدني) ولتوعية الآخرين المضللين (فهي لا تقتل البشر!). "وطنيّة" هي أيضاً، فوق الشعوبيات اللبنانيّة وطوائفها، هي الآتية من الجبل المسيحي ورفيقتاها اللتان تلازمانها من المدينة إحداهما يعرّفُ الحجاب عن هويّتها الدينيّة. ربّما أنها تتبع بحرفيّة الكتاب أصول ابتكار "الأبطال الخارقين" المشهورين ببساطة حبكتهم القصصيّة وأحاديّة أبعاد شخصيّاتهم أمثال سوبرمان وغيره، متناسية أن أبطال اليوم في الشريط المصوّر – غير الأميركي طبعاً – هم أكثر تعقيداً وفرادة من النمطية التي أطلقتها "دي.سي.كوميكس" DC COMICS)) أواخر الثلاثينات من الماضي.
مباشر، واضح وبسيط هو أيضاً أسلوب جومانا مدلج في الرسم. خصوصاً في ما يتعلّق بشخصيّاتها. وكأنها تريده لجميع الأعمار (فلسفة مدرسة بروكسيل في الشريط المصوّر) مقنعٌ لمن ابتدأ القراءة حديثاً وغير مملّ للراشد البصري الذي تغريه بتأليف متحرّك للصفحة (على عكس المدرسة المذكورة) واستخدام ذكي للصورة الفوتوغرافيّة في المشاهد التي تريد أن تُضفي عليها طابعاً دراميّاً وسرداً مؤثّراً. أماكن أحداثها مذكورة بالأسم، من محور المتحف حيث المقرّ الرئيس لـ"سريّة الدفاع عن المواطن"، إلى الجامعة اللبنانية، مقهى قهوة الزجاج في الجمّيزة، فخطوط التماس والأبنية المدمّرة، ترسم تفاصيلها بدقّة متناهية (وإن استمرّت ببساطة الأسلوب نفسه). وحين تتناول عالم الغيب ترجع إلى المصادر البصريّة الأركيولوجيّة (الفينيقيّة طبعاً أو ماينسب إليها!). وللراغب في معرفة تفاصيل منهجيّتها الفنّية في الرسم و التلوين أحيله أيضاً إلى صفحاتها على الأنترنت حيثُ تشرح بشفافيّة غير مألوفة مراحل تنفيذ عملها من الخربشة على الورق إلى التأثيرات البصريّة المشغولة على الكمبيوتر، ما يصلح مادة تعليمية في هذا المجال.
إحترافيّة تطبّق حرفيّاً ما تعلّمته في الكتب عن كيفية انتاج شريط مصوّر. وهي بهذا المعنى نموذج لـ "الأصوليّة" في التنفيذ. تتبعُ منهجاً ونظاماً لا يحتمل أي مجال للصدفة أوالخطأ، تعيد وتعيد إلى أن تصل إلى "ما يجب أن يكون". وربّما كان لأحترافها فنون القتال الصينيّة وتعليمها إيّاها القدرة العالية على رسم الحركات المعقّدة لـ "ملاك"، والكل يعرفُ مدى صعوبة تحريك "الأبطال الخارقين" خصوصاً في الأوضاع القتالية التي يتجاوزون فيها حركات الأجسام البشريّة. وهنا تبدو مقنعة أكثر في تحريك شخصيّاتها في أوضاع القتال منها في أوضاع الحياة اليوميّة، يساعدها في ذلك مهارتها في تأليف صفحاتها بما يتماشى والحركة الدراميّة للقصة وتصاعدها.
ملاحظة قد لا تُضيف على شكل أو مضمون إنتاجها لكني وجدتها ضروريّة. جومانا مدلج، وحدها بين محترفي جيلها تستغل إمكانية الأنترنت لتسويق أعمالها، حيثُ تبدأ نشر قصصها صفحات متتابعة على موقعها الألكتروني قبل إصدارها مطبوعة في المكتبات، و يمكن تحميلها تباعاً على كمبيوتر القارئ. والمتعارف أن توضع المنشورة على الأنترنت بعد صدورها بوقت يكون التسويق الورقي قد استنفذ. وكأنها تريد أن تخلق علاقة مميّزة بين قرّائها الملتزمين متابعتها فيصبحون أوفياء لها ولبطلتها لما تقدّمه لهم من تمايز. وهي نجحت في ذلك الرهان. وتأكيداً لذلك تكفي متابعة ولاء مريديها لها في شراء كتبها (التي تطبعها بأسمها من دون دار للنشر) واكتفائها بتمويل ذاتي لأصداراتها بعيدة عن نغمة المساعدة الماليّة أو التمويل الخارجي الذي تتوسّله فنوننا للأستمرار. وحدها ربّما تحمل القدرة الأكيدة على إكمال طريق طويل بفعل إرادتها الصلبة وولاء "أتباع" ملاكها.
تسأل "ملاك" صديقها الوحيد الذي يعرفُ سرّها (والأجنبي الوحيد أيضاً في السلسلة)، لماذا عاد إلى البلد بعدما واجه الجنّ وبقي على قيد الحياة صدفة. "لأواجه الروح الشرّيرة التي تريد أن تسكنني...الآن وقد التقيت بشيطاني". ربّما هذا ما تدعونا إليه جومانا مدلج و ملاكها في سلسلتها التي لا نعرف نهايتها. أن يواجه كلّ منا "الشيطان" الذي في داخله، الطريق الوحيد للخروج من حروبنا الأهليّة التي لا نعرفُ نهايتها هي أيضاً.
جورج خوري (جــاد)
الصورة 1: جومانا مدلج، مواليد أيلول 1979
الصورة 2: "ملاك" الآتية من التاريخ الميثولوجي
الصورة 3: مسرحها الحرب الأهلية
الصورة 4: شوارع مدينة بيروت
الصورة 5: تتقن فنون القتال
Posted by
J A D
Labels:
A N - N A H A R,
T E X T
Wednesday, October 7, 2009
لينا غيبة - الأربعاء 7 تشرين الأول 2009
لينا غيبة حطّت في بيروت وعشقتها شرائط وتحريك
"هل الحروب يا تُرى تعمّق سواد العيون؟"
منذ أن حطّت رحالها في بيروت منتصف الثمانينات من الماضي، شكّلت لينا غيبة[1] علامة فارقة في فن الشريط المصوّر (ولاحقاً فن التحريك) في بلادنا. هي التي أحبّت هذه المدينة إلى درجة التماهي معها، وكرّست لها معظم إنتاجها في مجالي الشريط المصوّر والرسم المتحرّك. رافقتها في حروبها الصغيرة ووقفت إلى جانبها في تحوّلاتها الكبرى (وهي ليست بقليلة) وحملتها معها إلى العالميّة مشاركة في مهرجاناتها وحاصدة بعض جوائزها. وحدهم الذين عرفوها عن قُرب ادركوا أن مفتاح الإحاطة بفنّ لينا غيبة هو هذه العلاقة الحميمة التي جَمَعَت شبيهتين: مدينة ملتبسة الهويّة شاءت الصدف أن تكون على خطّ تماس صراع ثقافات، وامرأة تتصارع مكوّنات ثقافتيها الغربيّة والمشرقيّة في هويّة واحدة لا تعرِفُ الإستكانة.
فنّانة صداميّة هي لينا غيبة، وكأنها تريد التذكير أن فن الشريط المصوّر بدأ، وما زال، فنّاً يستفزّ السائد، والمتعارف عليه، والمُجمَع حوله، والمتوافق عليه من دون أن تكون عدائيّة. وليس غريباً أن يكون شريطها الأول عن المتمرّد الأزلي الذي عُلّق على الصليب، حيث اختصرت مأساته بصفحتين لصرخة مدويّة من الوجع القاهر والدّعوة إلى رفض الظلم. مواضيعها ملتزمة الأنسان – إنساننا وليس أي إنسان آخر- ومعاناته، حالمة له بعالم أفضل تعرفُ أنّه موجود وإن لن يأتي، من دون أن تكون بالضرورة دراماتيكيّة. إلتصق إنتاجها بكلّ المواضيع المثيرة للجدل في مجتمعنا من حقوق الطفل (فيلمها القصير كان المشاركة العربيّة الأولى في مهرجان Annecy الدولي لرسوم التحريك) إلى حقوق المرأة (وغالباً ما تنحاز إليها)، معاداة الحروب، فقضيّة المفقودين، إلى "طفح الكيل" من دون أن تقع في المباشرة أو الخطاب السياسي التحريضي" فتبقى رسومها صالحة لأي زمان ومكان يشهد ظلماً، هي التي تنتمي إلى أي زمان ومكان!
غالباً ما تُبقي لينا غيبة مواضيعها مفتوحة على التأويل، وكأنّها لا تهتمّ بالقصّة بقدر ما ترغب في لفت النظر والدعوة إلى التفكّر في حالة إنسانيّة خاصّة. في "رايح موت بدّي عيش" (من كتاب "من بيروت" لمحترف جاد) تُصوّر يأس شاب أقعدته الحرب، سيّارته متوقّفة على حافّة الكورنيش فيما يختفي هو من دون أن نعرِفَ إذا أقدم فعلاً على الإنتحار أم لا. تبحثُ عن شخصيّات مهمّشة من حياتنا اليوميّة باتت جزءاً من المشهد العام المنسي لمدينتنا، فتدفعها إلى الواجهة من دون إفتعال تغيير في حقيقتها أو تحويلها أبطالاً. هكذا رَسَمَت "بيّاع الياسمين" قرب ملهى الـ"بلو نوت" الذي انتهى سورياليّاً شخصاً من رَمل انسكب على الرصيف من كثرة الإنتظار ومن دون انتباه أحد من المارّة. ولهذا ربّما أتت معظم شرائطها (ورسومها المتحرّكة لاحقاً) صامتة عن أي حوار أو حديث، وكأنها بالصمت (أو الموسيقى ومؤثراتها في أفلامها القصيرة) والبراعة البصريّة تريد تكثيف الإنفعال باللحظة وعدم التلهّي بغير المرئي المُثقل بالمعاني.
مصوّرة اللّحظات الإنسانيّة والحالات الخاصّة. تتجاوز المواقف السياسيّة بمعناها اللبناني من دون أن تكون "إستشراقيّة". تنزع عنها الحزبي و المناطقيّ والأيدلولوجيّ لتنحاز إلى أفُقها الأنساني. منحازة إلى الضحيّة من دون مواربة وإن انتمى إلى فئة "الظالمين". فتؤنسن فرديّته ولحظة فقدانه سلطته، وكأنها ترى الخير في جوهر الطبيعة الأنسانيّة أيّاً كانت المناسبة. في "الحاجز"، حيثُ يطغى المطر وصوت الرّعد (غير المسموع)، تتعاطفُ - أو تريدنا أن نتعاطف- مع شاب من الميليشيا يقف ليلاً، وحيداً، عند حاجز تقاطع "تلّة الخيّاط" لحظة تخترِقُ رصاصة مجهولة ظهره فيهوي ببُطءٍ وصمت من دون انتباه أحد بمن فيه رفاقه. في "يا ولدي" فيلمها المتحرّك الأخير، تُرافقُ بصمتٍ امرأة تشربُ القهوة صباحاً، تأخذ باصاً عاما إلى ساحة رياض الصلح لتقعد وحيدة وبين يديها صورة ولدها المفقود (من دون أن نعرف إذا كان من المفقودين عند الميليشيات خلال الحرب الأهليّة أو في السجون السوريّة) تسكب دمعة مع نهاية النهار لتعود إلى بيتها وحيدة تشرب القهوة من جديد، تجهش في البكاء، تعلّق محرمتها فوقها لتجفّ وتستخدمها في اليوم التالي الذي يكرر ما سبقه. وحدها صرخة "يا ولدي" لعبدالحليم حافظ من "قارئة الفنجان" تدوي على إيقاع موسيقى ملحميّة أسبانيّة.
فنّانة بصريّة بامتياز هي لينا غيبة. تحترف فنّ التصوير من دون كلام، وكأنها تكره الثرثرة (التي تبدو طاغية في فنوننا اليوم) وتعتبر أن الصورة وحدها تكفي لنقل المعنى، وهو تحدّ صعب لمن يتوجّه إلى جمهور (ومثقفين؟) الخطابة أساس ثقافته، والصورة على هامش تربيته ولم تُصبحَ بعد في صميم نقاشه الفنّي والفكري. تُساعدها في ذلك مرجعيتها التشكيليّة و الغرافيكيّة الصلبة التي تترك بصمات واضحة على أعمالها: حرارة ألوانها وتناسقها تُخفّفُ من سوداويّة مواضيعها تاركة لنا فسحة الأمل الوحيدة. ومؤسفٌ أن يتخلّى شريطنا المصوّر الحالي عن التنوّع اللوني ("السمندل" وغيرها من المنشورات للراشدين) لصالح ثقافة الصورة الأحادية اللون. أما تأليفها فيكسر الأطر عند الضرورة كما في صفحات "البصّارة"، أو يكثر من الأستعارة الأخراجيّة السينمائية، فلا تتركنا لحظة ننسى أنها وليدة الثقافة المعاصرة للصورة المتحرّكة كتاباً وشاشة تلفزيون وفيديو كليب وسينما. هذا دون أن ننسى استخدامها لجماليّات الخطّ وتطويعه في خدمة التعبير البصري أو التأليف الأخراجي.
لافتةُ أيضاً براعتها في المزج بين أساليب رسم متعددة في القصّة الواحدة، وأحياناً في الإطار الواحد (تعدّدية الهويّة؟). في رسوم "من بيروت" ترسم الخلفيّات والتفاصيل بواقعيّة المتمرّس لتضيف إليها شخصيّاتها المرسومة بأسلوب كارتوني لا يمكن إلاّ أن يلفت النظر، وربّما عن قصدٍ منها لتجعلنا نتعاطف مع شخصيّاتها. ويمكن أن تلجأ إلى العكس، كما في بعض أفلامها القصيرة مثل "سبعة أيام في الأسبوع" التي تحكي واقع المرأة العاملة في مجتمعاتنا الذكوريّة. وكأن لينا غيبة من فئة نادرة من "السحرة" الفنّانين الذين يتقنون "الشعوذة" البصريّة وتركيباتها "الخيميائيّة" فلا يمكن أن تترك المتلقي غير مبالٍ. ولمن يعرفها، فإن هذا جزء مما هي عليه في الحقيقة، إمرأة تهتمّ بتفاصيل ذاتها وأشكالها وألوانها المنمّقة لتتماهى والشخصيّات (النسائيّة) التي ترسمها، أو العكس!
معالجتها الأبداعيّة تنطلق من صياغة فكرة مبتكرة إلى طريقة تخيّلها بصريّاً بلغة خاصة بها لا يحاكيها أي من فناني الشريط المصوّر عندنا. يمكن قول الكثير عن "فنون" لينا غيبة لغزارة إنتاجها وتنوّع ممارساتها واستمرارها دون انقطاع وبكثير من المفاجآت. يبقى أن فرادتها في أنها شبيهة ذاتها فنّياً. ونادراً ما نرى عندنا من امتلك لغته وأسلوبه ومفرداته البصريّة بعيداً عن مرجعيّة ما.
في أولى شرائطها المصوّرة رسمت لينا غيبة الحرب عندنا بعنوان: "هل الحروب يا ترى تُعمِّق سواد العيون؟". سؤال لا تزال لينا غيبة تبحثُ عن جواب له بعد عقدين من الأنتاج الفني في أحوال بلادناالمثقلة بالحروب والأزمات، وكأنها لا تدرك أن عيونها الجميلة تحثّنا باستمرار على أن نرى الجمال في أنفسنا وسط مأساتنا المتكرّرة. جمالٌ ربّما، فقط ربّما، حين يلفتنا إليه من هو غيرنا تُفتَحُ لنا نافذة أمل...
لينا غيبة شكراً...
[1] لينا غيبة دانماركيّة-سوريّة من مواليد 1967. أتت إلى بيروت منتصف الثمانينات بعد ترحال بين عواصم عربيّة لتدرس الفنون التشكيليّة في كليّة بيروت للبنات (الجامعة اللبنانية الأميركية حاليّاً)، وفي موازاتها الفنون الغرافيكيّة. إنتقلت إلى الولايات المتّحدة لتحصّل شهادة في الماجستير مع إختصاص في فنّ التصوير الفوتوغرافي، لتعود إلى بيروت حيث تقيم منذ 1991. من مؤسسي قسم التحريك الـAnimation في تلفزيون المستقبل. التحقت منذ 2006 بالجامعة الأميركيّة في بيروت استاذة متفرّغة تدرّس فنون التحريك والتكنولوجيا الحديثة.
Posted by
J A D
Labels:
A N - N A H A R,
T E X T
Wednesday, August 5, 2009
زينة أبي راشد - الأربعاء 5 آب 2009
زينة أبي راشد في "أن نموت، نرحل ونعود: لعبة طائر السنونو"
ذاكرة جماعية زمن الحرب نفتقدها وقت السلم
"شبيهة مرجان ساترابي (مؤلفة "ميتروبوليس" الأيرانيّة الأصل) ". عبارة متكرّرة سمعتها من قُرّاء ومتابعي الشريط المصوّر في لبنان وكانت الحافز الأساس لمراجعة كتاب زينة أبي راشد "أن نموت، نرحل ونعود: لعبة طائر السنونو" عن دار كامبوراكيس بمساعدة "المركز الوطني للكتاب" في فرنسا. عبارة تختصر خلفيّة تناول البعض من المحترفين لأي عمل فنّي يواجههم ويتطلّب منهم موقفاً (لا أعلم ممن؟) ورأيا (غالباً ما يُبنى على حدود متواضعة في المعرفة المتخصّصة، أو على مبدأ التقليد السمعيّ، خصوصاً أن كثيرين هم من الثقافة الأنكلوساكسونيّة، ولا يتكلّمون الفرنسيّة أساساً وهي لغة أبي راشد ومخزونها الثقافي).
وإذا كان النقدُ المقارَن لا يُساعد بالضرورة على مراجعة نتاج ما، فهو في حالة زينة أبي راشد مدخلٌ مُفيد لأعطاء نصّها ورسومها ما تستحقّه من تمايز أو خصوصيّة.
في النصّ، تنتمي أبي راشد إلى الشريط المصوّر السردي-الذاتي (الأوتوبيوغرافي) حيث ينهل المؤلّف-الرسّام من ذاكرته وسيرته (أو سيرة المكان) موضوعه. وهنا أيضاً ليست ساترابي الأولى كما أن لينا مرهج اللبنانية في "مربّى ولبن" لن تكون الأخيرة (سبقهما إلى ذلك فريق محترف جاد في "من بيروت" و "مذكّرات ملجأ" عن ذاكرة مدينة الحرب وواقعها المعاش بإختلاف مؤلفيها)، هذا دون ذكر الكمّ القصصي المماثل في الغرب عموماً.
تروي أبي راشد قصّة من واقع عاشته خلال الحرب الأهليّة اللبنانيّة في "المنطقة الشرقيّة" لبيروت كما كانت تُعرَف وتحديداً عند خط التماس في منطقة مار مارون شارع جرجي زيدان. هي قصّة عائلة (أبي راشد) وفصل من يوميّاتها يختصر أي مكان وزمان في تلك الفترة. والدان يذهبان لزيارة الجدّة في الشارع القريب ولا يستطيعان العودة إلى المنزل بسبب القصف، فيبقى الولدان (زينة وأخوها) برعاية بعض سكان البناية الذين يجتمعون عندهم في العادة كونهم في الطابق الأرضي (الأكثر حماية، مبدئيّاَ). الكتاب (الأكمل والأهمّ في المجموعة الصغيرة من كتب أبي راشد) قصّة واحدة تبدأ وتنتهي بين صفحاته على عكس ساترابي أو مرهج اللتين تسردان مشاهد متناثرة لا يجمعها بالضرورة تسلسل زمني، أو شخصيّات ثابتة ومؤثّرة خارج إطار العائلة.
"توثيقيّة" في صياغتها وكأنها تخاف فقدان لحظات حياتها (وهي التي انتقلت لاحقاَ للعيش في فرنسا، مثلها ساترابي!) لا تترك جانبا أياَ من تفاصيل شخصيّاتها، شكلاَ ومضموناَ. "أنهلا" الخادمة-المربّية منذ جيلين لعائلة فرح (المهندس رمزي وزوجته الحامل اللذان ينتظران تأشيرة السفر إلى كندا)، تلهي الأولاد في صناعة حلو "الصفوف"، و"شكري" إبن ناطورة البناية الذي اختطف والده سائق الأجرة في "الغربية"، والذي توحي ذكوريّته بالطمأنينة، و"أرنست شلّيطا" أستاذ اللغة الفرنسيّة في ثانوية شارع بيضون الذي قُتل أخوه التوأم برصاص قنّاص وبقيت جثّته ممدّدة أرضاً إلى أن تمكّن شكري من سحبها تحت جنح الظلام. أرنست الأنيق لا يغادر الطابق الثالث إلا إذا انقطعت الكهرباء وبعد أن يلبس هدومه وكأنه خارج في موعد غرامي، ولديه دائماَ ما يرويه للأولاد من ثقافته الأدبيّة الفرنسيّة. يجتمع إليهم تباعاً "مسيو خالد" الذي كان قبل الحرب صاحب مربع ليلي لم يبقَ منه سوى صناديق المشروب الفاخر التي يستفيد منها سكان البناية وقت الشدّة، ترافقه زوجته "مسّ ليندا" التي وصلت لتكون ملكة جمال في الستّينات.
توثيقية هي أيضاَ في سرد تفاصيل اللحظات وأصواتها: أنقطاع الهاتف، "فلاشات" الأخبار المتتالية، صوت مولّد الكهرباء، "غالونات" الماء الأحتياط (للشرب أو قضاء الحاجة)، لوكس الغاز للإنارة، أوقات شرب القهوة، تعداد القذائف والتباري في معرفة نوعها وأمكنة إنطلاقها وسقوطها. لحظات أخرى سرداً للذكريات والمناسبات السعيدة لتنسي الجميع خطر الموت الداهم، تليها لحظات الخوف والأنفعال مع أصوات القصف المتصاعد وغياب الحديث وسيطرة الصمت لتذكير القارئ بمأساة الواقع.
في الرسم، تختلف زينة أبي راشد عن زميلتها الأيرانيّة. ولا يبقى من المقارنة إلا الأسود والأبيض قاعدة لونيّة. وإذا كانت ساترابي تتبنّى رسماً يذكّر بأساليب الأطفال التي تختلف بين صفحة وأخرى أو فصل وآخر لكنها مفعمة بالحيويّة، فإن أبي راشد تذهب الى النقيض الآخر حيث الرسم أقرب إلى الأيقونة في جموده وغياب الحركة والبعد الثالث عنه كلّياً. هذه المفارقة بين سرد واقع غارق في التفاصيل الصغيرة والتعبير عنه رسماً بأسلوب يصوّر مصطلح الوجوه وليس واقعيّتها وأسلبة الأشياء والأدوات كما في المنمنمات الإسلامية، ربّما تعود إلى براعة المؤلّفة التخطيطيّة والغرافيكيّة أكثر منها الى مهارة الرسم التصويري الغائب عن جميع منشوراتها المتلاحقة. وكأنها تستعير من السجّادة المعلّقة في مدخل المنزل أسلوباً تستعيره لتعبيرها البصري. وجوه شخصياتها لا تتغيّر على مدار القصّة، خطوطها وكأنها مرسومة بالمسطرة، نظيفة، لا حيويّة فيها، تشهد على زمن معلّق. نظافة إستفزازيّة حتّى في تفاصيل الشارع الذي يُفترض أنه يعايش القذائف ورصاص القنّاصين وتوقّف خدمة جمع النفايات. قد يكون هذا ما أرادت أبي راشد أن تحفظه عن طفولتها في الحرب، فجاءت ذاكرتها البصريّة إنتقائيّة، تجميليّة وزخرفيّة.
واضحٌ أيضاً إستغلال أبي راشد مهاراتها الغرافيكيّة إلى حدودها القصوى. فهي لا تتردّد في إعطاء الأولويّة بصريّاً لتأليف الصفحة على تفاصيل الرسم ولا تتوانى عن استخدام تقنيّة التكرار الرقمي (Copy-Paste) في رسومها وخصوصاً في شخصيّاتها التي ترسمها دائماً من الأمام أيّاً تكن وضعيّتها فلا تستدير إلى جنب أو إلى فوق أو إلى تحت. وإذا أرادت تصوير زحمة سير ترسم سيارة وتكرّرها نفسها من دون إعتبار لأي منظور (Perspective) وكأنها قطع لعبة "ليغو" للصغار القائمة على البناء عن طريق التكرار. وهكذا تضعنا أمام تصميم غرافيكي وليس صفحة مرسومة. وهنا جوهر فرادة أسلوبها عن زملائها من المدرسة نفسها (وربّما تساؤل البعض عن مهارات الرسم لديها).
هي ذهبت في هذا المنحى (خصوصاً في ألبوم الجيب الأخير الذي أصدرته بعنوان "أتذكّر") إلى حدّ إحتراف هذه الطريقة نمطاً يُعرّفُ عنها. مثل حين تتحدّثت عن التنقّل الدائم لعائلتها بين أماكن مختلفة اقتضتها الأوضاع الأمنيّة المتلاحقة مع العودة دائماً إلى نقطة الأنطلاق (البيت-الأساس)، فصوّرت أفراد العائلة كأحجار لعبة "الحيّة والسلّم" وأماكن التنقّل خانات اللعبة. وأعتقد أن قدرة زينة أبي راشر الأبداعيّة تتجلّى حين تلجأ إلى هذه الأستعارات التي تستمدّها من ألعاب طفولتها حين كانت تضطر وأخوها إلى ملازمة المنزل، أو من القصص التي كانت تروى لها وهي المحاطة دوماً بالأدب و الموسيقى. وأعتقد أن زينة أبي راشد عاشت طفولة "سعيدة" مليئة بالمغامرات واللحظات الجميلة عند خطوط التماس.
يبقى غريباً الشعور الذي ينتاب قارئاً مثلي عاش في "الجانب الآخر" من خطوط التماس فترة الحرب وإلى أي مدى كان تشابُه الواقع والحالات وردّات الفعل والمآسي التي لا تخلو في بعض الأحيان من الطرافة. وكأن زينة أبي راشد أرادت أن تكتب وحدة حال، لتبني عليها ذاكرة جماعية مليئة بمصطلحات وتفاصيل عيش وتقنيات حياة يوميّة جمعت بين الناس أيّام حرب مضت فيما تختلف جذريّاً في زمن السلم اليوم. هل الحرب هي التي توحّد في كل مرّة بين "الشعوب اللبنانيّة" في تفاصيل حياتها اليوميّة، ليعودوا فيتفرّقوا جماعات لديها إجتماعيّاتها وعاداتها ومعتقداتها المختلفة في حال السلم؟ سؤال يطرح نفسه في كلّ مرّة أقرأ أو أشاهد أو أسمع عن الحرب اللبنانيّة وفصولها.
وها هي زينة أبي راشد تثيره من جديد...
ولا جواب...
جورج خوري (جــاد)
Posted by
J A D
Labels:
A N - N A H A R,
T E X T
Friday, June 5, 2009
إدغار آحو - الجمعة 5 حزيران 2009
إدغار آحو : فنّان لشريط مصوّر إنتهى باكراً
تماهى مع شخصياته فحلّق في فضائها...
"مبارح دقّت سمكة على بابي وقالت لي البحر فَلّ... حتى خياله عن الوَرَق فلّ"... لا يختلف إثنان من الذين رافقوا المسيرة الفنّية لـ إدغار آحو (الذي غاب عنّا في مثل هذه الأيام قبل ست سنوات) على أنّه كان رسّاماً فريداً للشريط المصوّر اللبناني والعربي، وأنّه رَحَلَ باكراً، وربّما باكراً جداً. ويُجمِعُ الذين عَرفوا عن قُرب "إدي" (كما كان يرغَبُ في أن نناديه)، أنه عاش كما رَحل في عالم خاص به، إبتكره من ذاته ووضعه نصّاً ورسماً على أوراقه البيضاء التي نُشِرَت في صفحات جرائد ومجلاّت، وعلِّقَت على جدران معارِض محلّية وعالميّة.
أذكُرُ حين التقيته للمرّة الأولى منتصف الثمانينات من الماضي، راغباً في الأنضمام إلى ورشة عمل للشريط المصوّر أقمتها في معهد غوته الثقافي الألماني (كانت نواة إنطلاق "محترف جــاد" لاحقاً) عَرْضَه أن يُقايضني رسوماً بدَل قيمة الأنتساب إلى الورشة. وكان جوابي بعد رؤية رسومه أنها تساوي أضعاف القيمة، وأنّه مُحترِفٌ بالفطرة (رغم عدم إنتسابه إلى أي من معاهد الفنون). وبدا لي أنه لا يعرِف القيمة المادّية لفنّه، وهو بقي حتى آخر لحظة في حياته لا يُعير المادة أي اعتبار.
"أثيريّاً" مُحلّقاً كان "إدي"، كما شخصياته التي رَسمها: من "رامح" الجمل الذي يُحبّ التنقّل على بساطه الطائر عوض السير أميالاً (منشورات "هزار" 1990 وكان بدأها في الثمانينات) إلى "المفتش لمبة" الذي يسير قفزاً متحدّياً قوانين الجاذبيّة الأرضيّة (للناشر نفسه)، والولد الخارِج من الحائط ليذهب فيسبح فوق القمر في "عتمة الزواريب" (ألبوم "من بيروت" لمحترف جــاد عن الشركة العالمية للكتاب، 1989)، وابتداءاً بأولى رسومه مصوّراً نفسه منفلتاً من عينٍ خرجت من الأرض لتشهَدَ على الحرب (وإدغار كان مسحوقاً بها، تلبس كيانه، هو الذي خَسِرَ خلالها أو بسببها الأب والأخ وفي مرحلة لاحقة الأم).
ومِراراً تساءلتُ ماذا كان يُفكِّرُ "إدي" لحظة قرّر أن "يُحلِّقَ" بجسده من فوق مبناه ليُغادرنا إلى عالمه؟ قيل أنّه انتحر يأساً من الحياة التي يعيش في لحظة التباس وأنا أحبّ أن أعتقد أنه أراد أن يتماهى بالشخصيّات التي رسمها وآمن بوجودها حقيقة، فأراد لقاءها في فضائه، مصدّقاً أنه هو أيضاً يستطيعُ التحليق (وربّما فعل ما لا نُدركُه). ولافتٌ كيف أن رفاقه في مجلّة "زيرو" zero (آخر منشورة شارك فيها بانتظام وأصدَرت عدداً خاصاً به بعد رحيله، العدد السادس 2003)، أجمعوا في رسومهم التكريميّة على أثيريّة زميلهم ولا مادّيته قبل أي صفة أخرى. حتى في رقصه (وكان يعشق مجارات الموسيقى بجسده) كان، وفي لحظة معيّنة لا يعرفُ موعدها سواه، يمضي وحيداً و"يطير" وكأنه في تصاعد صوفي مع كل نوتة موسيقيّة، فيما تتسع المساحة حوله ويتوقّف الجميع ليشاهدوه يُحلّق. وفي هذا أيضاً كان له أسلوبه الخاص.
"سوريالياً" ربّما كان في انتماء نصّه وأسلوب رسمه، لكنّه في التأكيد كان نسيج ذاته الفنّية. ليس لرسومه مرجعاً سوى ما اختطته يداه (وكان يكرّرُ محاولة الرسم باليسرى في حال "ملّت" اليمنى الأنصياع!). وليس لنصّه سوى ما جال في مخيّلته من رؤى. وغالباً ما كان يتهكّم على نعتِهِ بالسوريالي من النقّاد (وهُم إذا لا يُصنّفوا لا يستطيعون الإدراك) وكان يُجيبُ بجدّية: "أنا سرياني مش سوريالي". وهو كذلك خصوصاً في مرحلة تأزّمه الأخيرة حين انكبّ على تعلّم السريانيّة لُغةً وثقافةً. مهووسٌ بلعبة الألوان وإتقانها (أين منه رسّامو اليوم في مجاله) وبمحاكاة الخيال البصري ليُصبِحَ حقيقةً يقتنعُ بها هو أوّلاً قبل إدهاش الآخرين بها. "ما تعانِد اللون الأسود... خلّيه يمرّ... في ألوان كثيرة ناطرة وجايي... وهيك حملت خيالي ورجعت على البيت... ونمت" (من "عتمة الزواريب" 1989).
وكما في رسومه وألوانه كان "إدي" فريداً في نصوصه. وللذين عرفوه عن قُرب لم تكُن سوى صدى لشخصيته ولمحاكاته اليوميّة لمحيطه، وبهذا المعنى كان قدريّاً. أذكر أيضاً يوماً خلال "حرب التحرير" وكنتُ عائداً معه ووسام بيضون (ما تبقّى من محترف جــاد) من مقهى الـ"بلو نوت" واقترب وقت القصف على منطقة رأس بيروت (وكان جنرالات القصف في تلك المرحلة متمسّكين بدقّة التوقيت وعشوائيّة الأهداف). رجوناه أن يُسرِعَ الخُطى للوصول إلى الملجأ، "ما بدّي إتعب... بدّي عيش كثير... بدّي إفرح بمشوار الطريق... شوفوا السما شو لونها حلو..." وعرفنا أنّه يعيش في تلك اللحظة قصّة سنقرأها لاحقاً، وبالفعل نُشِرَت في الأسبوع التالي من ضمن "مذكرات ملجأ" (سلسلة أسبوعيّة لمحترف جــاد في جريدة "السفير" في 1989). شخصيّاته كانت أيضاً متميّزة بغرابة انتقائها: جملٌ مثقّف ناطق، جدران تحيا "في عتمة البيت، كانت الحيطان عم تزور بعضها (...) حيط الزاروب في بيني وبينه إلفة عتيقة..."، معاناة صرصار تحت القصف (من "مذكرات ملجأ")، "سين وجيم"، علامة إستفهام وعلامة تعجّب، وتداعياتهما الفكريّة (سلسلة تحريك لتلفزيون المستقبل)، أُذن الفنان فان غوغ ومحاولة هروبها من الضوضاء القاتلة. وكأن إدغار آحو وجد نفسه أقرب إلى الأشياء التي يعيشها والحيوانات التي يتخيّلها منه إلى أشخاص وناس محيطه، يعرف التعامل معها، يُتقِنُ لغتها ويتفاعَل مع "أحاسيسها"!!!
من الشريط المصوّر إنتقل إدي إلى فن التحريك (من دون التخلّي عن الأول كما فعلنا جميعاً) هو الذي لم يكُن يعرفُ شيئاً عن الكمبيوتر. وبسرعة أذهلت الجميع أصبح مالكاً لتقنيّة تجاوزت من هم أصحاب إختصاص. وكنت دائماً في فريق العمل أعطيه مثالاً على إمكان التحوّل من الورقة إلى الشاشة الرقميّة: "إذا استطاع إدي ونجح، فأي شخص يمكنه ذلك". أتقن قراءة الحركة، تفكيكها، وإعادة تركيبها بأسلوبه المميّز. سلسلته "سين وجيم" تشهد على قدرته على تحريك أشياء (وهنا أحرُف) وكأنها كائنات حيّة (وأقنَعَ بذلك)، وقدرته الفائقة على إبتكار شخصيات حيّة من بضعة خطوط كما في سلسلة "الديكتاتور". أعتقدُ أنّه عاش شخصيّاته (وكانت كلّها تشبهه) فعرِفَ حميميّة حركاتها ونقل بواقعيّة قلّ مثيلها تفاعل أجزائها كما لو أنها أجزاءه. وأصعب ما في فنّ التحريك إعطاء بُعدٍ كيانيّ ونفسيّ للشخصيّة المراد ابتكارها، وإدغار آحو تميّز حيثُ بَرَعَ آخرون. ولا تزال أعماله تثير الإعجاب والدهشة إلى يومنا.
في إحدى حلقات سلسلته الأخيرة التي نشرها في مجلّة "زيرو" (من رسومه وإعداد مشترك مع ربيع مروّة)، يتعرّض "رامز" بطل السلسلة للخطف من قِبَلِ يدٍ ترتدي قفازاً تُهدِّدُ أهله بقتله إذا لم يدفعوا فدية. وعندما يرفضون، ويرفُض كل أصحابه أن يدفعوا "ولا حتى قرش واحد"، يثير غاضباً من الإذلال ويهجم على اليد لقتلها انتقاماً. عندها نَكتشِفُ أن رامز يلعبُ وحيداً مع يده، ويكتشفُ هو خطورة الوحدة "بتخوّف هاللعبة... مثل كابوس... ما بقى رح إلعب مع حالي هاللعب أبداً... تمثيليّة بشعة". وفي كل حلقة موقفٌ غاضب من والديه "ألو ماما؟...كيفك... بس أنا زعلان كثير منك ومن بيّي... هيك بتتخلّوا عني بأحلك الظروف؟... يا عيب الشوم...". ولمتابعي رسوم هذه السلسلة كان واضحاً من التغيير الكبير في الأسلوب، وتفكّك الخطوط والأطر، أن إدغار آحو بدأ رحلة جديدة من إبداعه-حياته، لكن أحداً ربّما لم يكُن على دراية بعُمق هذا التحوّل. ربّما كنّا سُذّجاً لأعتقادنا (أو تمنّينا) أن "إدي"، ولو لمرّة واحدة، يضعُ على الورق قصّة من خارج ذاته المختلفة، ورسماً مغايراً لما يعيش في العُمق...
"مبارح دقّت سمكة على بابي وقالت لي إدي فَلّ... حتى خياله عن الوَرَق فلّ"... لكن إدغار ما زال حاضراً في ذاكرة من عرفه عن قُرب أو من خلال أعماله...
إدغار آحو رَحَلَ باكراً...
جورج خوري (جــاد)
Posted by
J A D
Labels:
A N - N A H A R,
T E X T
Tuesday, May 12, 2009
مترو - الثلثاء 12 أيار 2009
"مترو" الشافعي: محطات مستعارة وفعل حبّ لمدينة
حين وصلتني نسخة عن ألبوم "مترو" (والأرجح أنها نسخة يدوية الصنع لسوء طباعتها وتوليفها وتجليدها)، كانت الضجّة التي أُثيرَت حول أوّل كتاب شرائط مصوّرة مصري للراشدين تراجَعَت أو خفتت في إنتظار الموعد الجديد للمحاكمة التي يساق إليها المؤلف الرسام مجدي الشافعي و الناشرون من دار " ملامح" في 23 من الجاري. ولمتابعي فن الشافعي (مواليد 1961، بدأ شرائطه المصوّرة في مجلّة "علاء الدين" التي تصدرها دار الأهرام، ثم في جريدة "الدستور" في 2005، و خصوصاً غير المنشور منها مثل "أبٌ من الجنوب" (اللبناني) عن الغزو الأسرائيلي للبنان) كان متوقّعاً أن يقوده نشاطه "غير المحسوب" (وثقافتنا باتت فن الحساب والرقابة الذاتية) وحماسه "المتهوّر" (صفة ما زالت تلازم قلّة ممن يربطون فنّهم بواقع مجتمعاتهم) وعشقه "الأعمى" للحريّة (والمبصرون من مثقفينا آثروا إزاحة أنظارهم عنها وعدم الإنفعال لغاية في أنفسهم) إلى ما آل إليه.
نحن إذاً أمام عمل مصري فنّي سياسي بامتياز. وللذين أدهشهم تجرّؤ الشريط المصوّر على السياسة والمحرّمات الإجتماعية والدينيّة، تذكير أن هذا الفن (وهو ما يعرفه الشافعي وغيره من محترفيه ويؤكدون عليه في أكثر من مناسبة) قام في الأساس حركة نقدية لاذعة بديلة للفن "الرسمي" (من دون أن تكون ساخرةً بالضرورة) تتجاوز الكاريكاتور السياسي الآني إلى سرد الحكايا وتجارب فنون التعبير على أشكالها قبل أن يتقوقع (عندنا، فـ"العالم الآخر" في مكان آخر) في مجال أدب الأطفال والتوجيه التربوي والأيديولجي والسياسي للناشئة. وكأن الشافعي، مثله تجارب قبله والمطلوب أخرى بعده (ولبنان رائد في هذا المجال)، أراد أن يعيد هذا الفن إلى أصوله الأولى إن لم يكُن تصويب مساره عندنا. هو الذي "إعترف" (في صفحة الإنترنت الخاصة به) وقبل سوقه إلى المحكمة عن "الهوس في إطلاق الشريط المصوّر فناً مكتملاً وأدباً رفيعاً" يتناول كافة جوانب الحياة. (لا ندري إذا كان المحققون أضافوا هذه الشهادة إلى ملف الإتهام والإعترافات).
وفي عودة إلى "الأدلة"، أن "مترو" قصة مهندس ألكتروني شاب (ليس فقيراً بالضرورة) يُدعى "شهاب"، أعدّ نظام برمجة الإتصالات لمترو القاهرة، لكن نبوغه الفردي أزعج "ممثلي الشركات العالمية في البلد. دي ناس جامدة قوي.. ما يسمحوش للواحد يطلع في السوق (...) رَشوا المسؤولين وطبعاً طيّرونا.. وفضلوا ورانا لحدّ ما فلّسونا". وتبدأ مشاكله في القصّة (والحقيقة ربّما) حين يخرج عن طاعة الكبار ويبدأ الشركاء والدائنون بملاحقته. يتعاطف مع "الغلابة" أمثال "مصطفى" مساعده الشاب الفقير المعدوم، و"ونس" ماسح الأحذية العجوز الصعيدي الأعمى (الذي يؤكد لاحقاً على إسمه المسيحي "الشغلانة الوحيدة في مولد السيدة زينب اللي ما حدّش بيسأل فيها إن كنت مسلم ولاّ مسيحي"). على علاقة غراميّة بـ"دينا" الصحافيّة الشابة التي تمنحه حبّاً "من دون مقابل..مش كل الرجّالة بتفهم ده لكن إنت بتحترم ده"، وإذا تغيب عنه "علشان أشارك في مظاهرة ضدّ الفساد.. ما أقدرش أسيب زمايلي دلوقتي.. دي الحاجة اللي بتحسسني إنه لسّه فيه أمل..."، لكن "شهاب" وإن يحترم مها لا يوافقها سذاجتها في إمكان التغيير.
هو الشخصيّة المحوريّة، مثيل "روبن هود" أُسقِط في قاهرة بداية الألفيةالحادية والعشرين. يُشهِرُ هامشيته من الصفحة الأولى، "كل ماأعرفه إن الناس كانوا دايماً في ناحية.. وأنا في ناحية ثانية وبقي لي شيء واحد: دماغي". لا يعادي النظام عن حاجة أو فقر إنما "علشان بأحب إضحك على السيستم (النظام).. الحقيقة ده مش سيستم ده طابور طويل من الأسرى اللي مش عارفين يخرجوا منه ويروحوا على فين". يتكرّر عنده الكلام عن "المصيدة اللي مدخّلين الناس دي كلها فيها" في أكثر من مرّة ملامساً السقوط في الكلام الواعظ، كذلك إستهدافه المتواصل لرموز السلطة السياسيّة "الكلّ مشغول بأمن وسلامة شخص واحد بس...وأي مفاجأة بتعدّي عليهم". يُنقذه إندفاعه الجسدي للدفاع عن العم "ونس" مرّة، أو عن "دينا" مرّات أخرى. يُتقِنُ فن "التحطيب" (القتال بالعصي) الذي تعلّمه من والده لغاية الدفاع عن الحق، وإن استعمله في سرقة المصرف (بعد أن أجاز لنفسه حقّاً في مال الأغنياء). شهامته وأخلاقياته ليست من المتوارث الشعبي بالضرورة، فهو لا يمانع إقامة علاقة جنسيّة مع حبيبته من دون زواج (ولا هي تمانع أيضاُ، وربّما في ذلك وفي رسم عارٍ وحيد من الأدلّة لدى الأدّعاء العام ضدّه)، لا يؤمن بالتنجيم ولا يقيم للتقاليد والإحتفالات الشعبيّة وزناً.
"مترو" مجدي الشافعي محطّات. لافتةٌ إستعارة أسمائها لزعماء في تاريخ مصر الحديث. لافتٌ أكثر إستخدام الشافعي لتلك المحطات الأسماء والشعار المُرافق لإسم كل زعيم ومنه ما هو مُقتَبَس من أقواله. فمن "بلا ضمان..بلا نيلة" في محطّة (الرئيس) محمد نجيب إلى "دي مش إنتفاضة شعبيّة..دي إنتنفاضة حرامية’" عند محطّة (الرئيس) أنور السادات، "من أجل غدٍ أفضل مبارك" يافطة إمضاء أمين الحزب (الحاكم طبعاً) في محطة عزبة النخل، لينتقل إلى "مظاهرة كفاية" عند محطة (الزعيم) سعد زغلول، "بنقول.. الكفاية والعدل" محطة (الرئيس) جمال عبدالناصر لينتهي بـ"ما إنتو كتير...أعمل لكم إيه؟" في محطّة (الرئيس) مبارك.
محطّات ساعدت أيضاً على التوقف لحظة إستراحة وتأمّل في نهاية كل مشهد وقبل الإنتقال إلى فصل جديد في الرواية. وهي حلّ غرافيكي مُبتكر إستعان به الشافعي لتحضير القارىء للأجواء المقبلة. صفحات تُظهرُ قدرات الفنان الغرافيكيّة وخلفيّته الحرفيّة بامتياز. محطّات شكّلت الرافعة الأساسيّة للتعبير عن "المحلّية" التي تُميّز قصّة "مترو" ورسومها.
محلّي بامتياز هو مجدي الشافعي. لغته المحكيّة المصريّة (واجهتني في البدء صعوبة في القراءة غابت بعد الصفحات الأولى) أعطت صدقيّة أكبر للشخصيّات، وألصقتها بواقعها الأجتماعي وخصوصاً في تمايز لكنة "ونس" الريفيّة، ومدينيّة "دينا" وطريقة كلامها. محلّي "قاهريّ" أيضاً في إلتقاط التفاصيل البصريّة للشوارع والشواهد، وتفاصيل العمارة المدينيّة وضواحيها الطينيّة المهملة، إلى درجة الإغراق فيها وحشرها في الكادرات الصغيرة التي تكاد تنفجر بها. وكأن الشافعي أراد أن ينقُل لنا زحمة المدينة وبحر الناس وما يميّز القاهرة مدينة، ببحر التفاصيل المرسومة والغرافيكيّة. وهنا حقّق من دون شكّ مبتغاه. محليّ هو أيضاً باحتراف في نقل أشكال الناس وتنوّعهم من "ونس" الريفي شكلاً وملبساً، إلى "دينا" "بنت المعادي" بقصّة شعرها وحركاتها الجسدية، تلبس الجينز الضيّق والقميص القصير، إلى الأغنياء المترفين وبطونهم المترهّلة فالــ"بلطجيّة" المشاكسين ورجال الشرطة وقوى الأمن. وبلغ هوسه في نقل الواقع البصري إلى استخدام أسلوب الرسم الحيّ المباشر (sketches) في بعض الخلفيّات وكأنه غير مكتمل. وحده "شهاب" خرج عن محاكاة واقعيّة الرسم، وهو وإن حافظ على "محلّية" الشكل إلاّ أن رسمه كان مؤسلباً (stylized) بعيداً عن التفصيل إن كان في جسده الذي اقترب بعضلاته وتقطيعه الجسدي من الأبطال الخارقين أوخطوطه. وربّما هذا ما أراده الرسام، بطلٌ محلّي غير موجود في الواقع (وزمن الأبطال ولّى عندنا)، يستعيره من حُلمه في التغيير وتداعيات مخيّلته.
يبقى أن "محلّية" الشافعي التصويريّة فعل حبّ لخطوط مدينته، وعشق لناس بلده على اختلافهم، تفاصيلها محفورة في ذاكرته، ورسومها موثّفة في يده تُسقَطُ بعفويّة عارية كما للشريط المصوّر أن يكون تعبيراً ودوراً.
في آخر الكتاب ينحني "شهاب" فوق "ونس" مخاطباً إياه بعد إصابة الأخير بليغاً في تظاهرة للمعارضة شارك فيها من دون قصد منه "كان إيه بس ذنبك تموت الموتة دي.." فيجيب "أحسن حاجة في حياتي هي موتتي.. عم أموت حُرّ". إذا مات "ونس" ليعرف معنى الحرّية نأمل ألا يكون سوق فنان وراء القضبان الطريق ليعرف هو الآخر قيمة التعبير الحرّ. نأمل أن يمضي "مترو" القاهرة في طريقه ولـ"أم الدنيا" ألا يفوتها القطار...
جورج خوري (جــاد)
Posted by
J A D
Labels:
A N - N A H A R,
T E X T
Wednesday, April 22, 2009
السمندل - الأربعاء 22 نيسان 2009
"السمندل": تقلُّب الإحتراف والهوايةً والإختبار...
ترددت كثيراً قبل الكتابة عن " السمندل" و" السمنيوليين" كما الرغبة في أن نُسمّيهم. فمنهم الأصدقاء والتلامذة والمتحمّسون (رغم أن الحماسة وحدها لا تصنع فنّاً). فالتقليد الثقافي أن الصديق يُمْدَح ويُشَجّع، والخَصْمَ يُنتَقَد ويُهاجَم بغضّ النَطَر عمّا "اقترفته" مخيّلته وما أجاد إبداعهُ. والتقليد أيضاً أن العمل الناشئ يُشجَّع في بدايات تلمسّه لطريقه في ما نحن أمام العدد الرابع وثبات التجربة والنهج.
تردّدي أيضاً نبَعَ من تحديد طبيعة هذه المنشورة وتعريفها بنفسها. وللحال أخذتني ذاكرتي إلى أول مشاركة لي في المهرجان الدولي لفن الشرائط المصوّرة مطلع الثمانينات في مدينة آنغولام الفرنسيّة حيث المنشورات من الأحترافيّة إلى الهاوية وما يترافق معها من معارض وأنشطة، وتعرُّفي إلى منحى واسع وسوق ناشط لما يُطلقُ عليه إسم "الفانزين" Fanzines . وهي منشورات لهواة أومتحمّسين للشرائط المصوّرة يجمعهم عشقهم لهذا الفن وإن لم يكونوا من أهل الحرفة. وأهمّية هذه الفئة من المنشورات أنها سمَحَت في بعض محطّاتها بدَفقِ السوق المحترف برسّامين أصبحوا في ما بعد من مشاهير عالم الشريط المصوّر.
أما في تقديم "السمندل" لنفسَها فهي "تطمَح بأن تَرفَعَ من شأن القصص المصوّرة إلى مستوى التعبير الناضج" (وهي كذلك أذا المقصود البُعدُ عن عالم الأطفال، أما إذا كان النُضجُ التعبيري عنى إحترافيّة الرسم والكتابة والتجربة المغايرة، فمساحة النقاش والجَدَل هنا واسعة). وتأمل "السمندل"ً في "تخطّي الحدود الجغرافيّة (وإن طغى على المشاركين فيها حدودهم اللبنانيّة)، واللغويّة (وهي فِعلاً ناطقة بالعربيّة والإنجليزيّة والفرنسيّة، وإن تكن الإنكلوساكسونيّة هي الطاغية على هويّتها)، من دون أن تنسى التقليد العربي بفقد الذاكرة و المرافق لإنطلاق أي عَمَل في تقديم نفسه، فهي "الأولى من نوعها في الشرق الأوسط (وليس العالم العربي! وهنا نقاش آخر)".
وما يزيد في غموض طبيعتها أن القائمين عليها كما وَرَدَ في العدد الثالث منقسمون في اختيار ما يجب قبوله أو رفضه من أعمال بين أن يكون "فريداً في التعامل مع الموضوع وهو أفضل من محاولة التشبّه بعَمَلٍ آخر" وبين "الجودة العالية شكلاً" فأي موضوع "لا يزعج طالما له قيمة فنّية". والمسألة هنا غير محسومة ووَجَبَ "التصويت قبلَ القبول بأي شيء على متن السمندل". و"المجموعة الديموقراطيّة" هنا هي المؤسسين على ما أعتقد: فادي باقي، حاتم إمام، عمر الخوري، لينا مرهج و طارق نبعة.
تردُّد من نوع آخر، أننا أمام عَمَلٍ جماعي لـ"قصص مصوّرة من هنا وهناك"، فيحتار المرء بين الحديث عن المفهوم-المقاربة والجامع المنظّم وراء المنشورة Concept and Organizer)) كما في المعارِض الجماعية، أو في تناول الأعمال نفسها مجتمعة أو فرادة، ومدى تماهيها مع الفكرة الأصل، أو إلتصاقها بالمفهوم لتبرير وجودها من دون أن تكون إحترافيّة. وكأني في "السمندل" أمام مشاركين من رسّامين و كاتبي سيناريو تجمعهم مجلّة محترفة التصميم (لا غرابة ومعظم القيّمون على المجلّة من متخصصي الغرافيك، وهنا الفرادة إن على مستوى اللوغو وتصاميم الأغلفة، إلى التنظيم الداخلي للصفحات). ملاحظة وحيدة ربما لها علاقة بتعدّدها اللغوي، وهي الإضطرار إلى قلب المجلّة رأساً على عقب أكثر من مرّة عند الإنتقال من لغة إلى أخرى واختلاف إتجاهات القراءة. وعلى رُغم أن هذا الإنتقال المتكرّر أوحى لإختلاق صفحة وفكرة خاصة به، غير أنه غير مُبرّر ويُصعِّبُ متابعة القراءة وكأننا أمام مجلاّت عدّة داخل مجلّة وليس منشور واحد له قسمه العَرَبي والآخر اللاتيني.
هي أقرب إلى المفهوم والتقليد الأنكلوساكسوني في الشريط المصوّر، والغالب الأميركي. قريبة من النشرات الهامشيّة لبعض ثقافة نيويورك المُصنّفة في خانة “underground comics” في الستينات أو لاحقاً السرد الغرافيكي ”graphic novel” (لإعطائه تصنيفاً ثقافيّاً بين الفنون لقلّة إحترام الأميركيين لهذا النوع لعقود) الذي هو أيضاً تعبير أميركي لكتاب الشريط المصوّر (album)في القارّة القديمة. وكأن المخزون-المصدر للمجلّة في مقاربة الفن التاسع هي في هذا المفهوم الذي نراه في مجلات الراشدين مثل “RAW” و “MAD”أكثر منها في “A suivre” و “fumetti”وغيرها من مثيلاتها الأوروبيّة. منحى ثقافي لإعادة إنتاج ما هو موجود (أو لجهلٍ بما هو موجود ربّما) وإعادة صياغته حتى في تعابيره اللغويّة لرفع شأنه كما ورد في تعريف إختلافها (القصة المتسلسلة على حلقات تصبح Serialized comics بدلاً من Comics series، أو One-shot comics كما في RAW للقصّة التي تنتهي في العدد نفسه. ولا أدري إذا المقصود إستعارة اللغة السينمائيّة للّقطة أو قدح الخمر!)
لينا مرهج، في "مربّى ولبن" من الأكثر إحترافاً وشفافيّة وذاتيّة والأقدم تجربة (إذا إستثنينا مازن كرباج الذي غاب عن العدد الرابع). بعيدة عن أي إدّعاء في إعادة ابتكار شريط مصوّر "جديد" تأخذنا بالرسم و السرد إلى عالمها العائلي الخاص. مؤثّرة في سردها، بسيطة إلى حدّ إحتراف البساطة في الخط و اللون (لا أدري إذا كان قرار الأبيض والأسود في المجلّة نابعٌ من قرار فنّي-ثقافي أم من حدود ماليّة). هي ذاتها تُمعِنُ في تجربتها وتدفعها قُدُماً منذ إلتقيتها في فيلمها للرسوم المتحرّكة الأول عن الحرب اللبنانيّة بعد تخرّجها من نيويورك عائدة الى "مربّى ولبن" بلادها، إلى تجربتها الأخيرة في المجال نفسه مع ماهر أبي سمرا عن فلسطين.
و"السمندل" لا تخلو من السائرين في طريق الإحتراف أو صانعيه. عمر الخوري مثيرة قصّته عن "صالون طارق الخرافي"، لا تحتمل الأ نتظار إلى العدد المقبل مثلها قصّة The Educator”" لفؤاد مزهر. هذا الثنائي المختلف إلى حدّ التناقض في كل شيء من الركائز الأساسيّة لتجمّع "السمنيوليين". وإذا كان الأول يغالي في "لبنانيّة" لغته المبرّرة (لا أفهم النطُق بالفُصحى لوسيلة تعبيريّة حديثة مثله مثل المسلسل التلفزيوني أو الفيلم السينمائي)، يذهبُ الآخر لغة ومكاناً إلى الغرب الناطق الأنكليزية. عُمَر الخوري متوتر في أسلوبه و خطّه، حتى في إختيار كادراته وزوايا "كاميرته"، وهو وإن بدا في بعض الأحيان "مستعجلاً" إنهاء رسم، فيبقى متماسكاً سرداً ورسماً وإيقاعاً على مدى الأعداد الأربعة. متماسك هادىء نقيضه فؤاد مزهر. واثقُ الخط، مالك لعبة النور والظلّ، كثيف التعبير مؤسلب في رسم الشخصيات، لا تهزّ "كاميرته" إنفعال أو حتى... جريمة إعتداء.
من الركائز أيضاً FLAB”" في El-Perceptor”" (نشرت بالألوان في 2004فيNucléa لناشرها جان-لوك إيستان الذي بدأ هو الآخر في نشرات الـ"فانزين"). وهو وإن يذكّر باتجاهات حاليّة في الشريط المصوّر القائم على مثلّث العنف-الجنس-المال، فهو (الفرنسي الأصل واللغة) يعيدنا في أسلوبه السردي ورسمه المختلف للشخصيّات، إلى أساسيّات فن الشرائط المصوّرة من ناحية وضوح السرد ووضوح تسلسل الرسوم، معيداً الإعتيار لتواصل الكادرات vignettes”" ووظيفتها الأساسيّة في التعبير الزمني. ويطالعنا العدد الرابع بـ"عشاء لشخص واحد" (بالإنكليزية) لكاتبه عُمَر نعيم الذي أطلّ بمخزونه كاتباً سينمائياً متفرّداً فيما لا يزال في ذهني عمله السينمائي المميّز Final Cut”" (وكنت أتمنّى لو أسقط قصّته الصغيرة الثانية "أهلاً في بيروت" لعَدَم أهليّتها نصّاً ورسماً). رافقته ريشة جورج عزمي ليكوّنا معاً فريق عَمَلٍ يُحتذى به على صعيد التجربة المُغايرة، حيثُ يُحاكيان ما يُنتَجُ اليوم في عالم الشريط المصوّر الحديث، إن لجهة الحبكة القصصيّة وكيفيّة تناول موضوعها أو ترجمتها رسوماً وتقطيعاً للتسلسل الزمني. وانضمّ في العدد الرابع نفسه حرفيٌّون آخرون : دافيد حبشي في "أبو كيس"، ورالف ضومط في "قصّة الرجل-العصفور" (بالفرنسيّة) مع التمنّي ألاّ تكون مشاركتهم عابرة و مقتصرة على عددٍ وحيد.
أما غالبيّة الآخرين (ولن أتناول هنا مثل FLAB المشاركين غير "الشرق الأوسطيين" وإن كان نتاجهم يتفاوت جودة واحترافاً مثلهم المحلّيين)، فهم إما كتّاب سيناريو أو أصحاب أفكار بصريّة يبحثون عن رسّامين محترفين، من أمثال حاتم إمام و سيرج مانوكيان وهاشم رسلان ومريم يَكَن، أو من الهواة والمتحمّسين للشرائط المصوّرة يحاولون التجريب والإختبار في مساحة "السمندل" التي فتحت أمامهم فسحة التعبير وكأن ضمن أهدافها خَلق "حركة أنصار" للشريط المصوّر "المختلف" وإن كانت البداية تحتاج كثرة العدد على حساب الإنتقاء.
وهنا ربّما تكمُنُ الهويّة الفعليّة لـ"السمندل" ودقّة إختيار إسمها. نشرة للشريط المصوّر تتلوّن بأطيافٍ تُراوحُ بين الإحتراف و الهواية والتجريب والحماس. "السمندل" تتماهى في كلّ قصّة مع طيفها شكلاً ومضموناً وليس لغةً فقط.
جورج خوري (جــاد)
Posted by
J A D
Labels:
A N - N A H A R,
T E X T
Subscribe to:
Posts (Atom)